طه عبد الرحمن والشر المطلق: قراءة فلسفية في أزمة الإنسان المعاصر

يقول طه عبد الرحمان:

“إن الشر المطلق ليس شراً يُمارَس فحسب، بل هو شرٌ يُبنى، يُخطط له، ويُنفذ بوعي مُمَنهج. إنه لا يكتفي بإلحاق الضرر بالغير، بل يسعى إلى القضاء على كل مقومات وجوده الأخلاقي والإنساني، بحيث يصبح العنف فيه نظاماً قائماً بذاته، ومبرَّراً بكل الوسائل، ولو على حساب الحق والحقيقة.”

طه عبد الرحمن، المفكر والفيلسوف المغربي البارز، يعالج مفهوم الشر المطلق في فلسفته برؤية تمزج بين الأخلاق والميتافيزيقا، حيث لا يكتفي بالنظر إلى الشر بوصفه مجرد أفعال أو نتائج سلبية، بل يتجاوز ذلك إلى فهمه كاختلال وجودي عميق يعكس انفصال الإنسان عن ذاته، وعن العالم، وعن الإله، هذا الانفصال هو الذي يجعل الشر ظاهرة تتعدى البعد الفردي لتصل إلى مستوى الكارثة الأخلاقية والوجودية التي تهدد الإنسانية برمتها.

الشر المطلق، وفقًا لطه عبد الرحمن، ليس فقط غيابًا للخير كما هو شائع في الفلسفات التقليدية، بل هو حالة تصل بالإنسان إلى حد فقدان إنسانيته والدخول في مرحلة “العدمية الأخلاقية”، في هذه الحالة يصبح الإنسان غارقًا في لذة مادية فارغة ويفقد الارتباط بالمعاني والقيم العليا التي تجعل للحياة غاية وهدفًا، يقول طه عبد الرحمن في هذا السياق: “الشر المطلق هو ذلك الشر الذي يبلغ في الإنسان حداً يفصله عن إنسانيته ويدخله في حالة من العدمية الأخلاقية”، هذا التعريف يبرز كيف أن الشر يمكن أن يتحول إلى قوة مدمرة للوجود الإنساني.

يرى طه عبد الرحمن الشر المطلق يتجلى في مستويات متعددة: الشر الأخلاقي هو أحد هذه المستويات، حيث ينبع من انحراف الإنسان عن القيم الأساسية مثل العدل والصدق والرحمة. أما الشر الوجودي فيظهر في اغتراب الإنسان عن ذاته، وانفصاله عن المعنى الأعمق للحياة. أما الشر الإلهي، فهو أعظم أشكال الشر المطلق، لأنه يعبر عن القطيعة مع الله والتمرد على العلاقة الروحية التي تربط الإنسان بخالقه. يقول في هذا الصدد: “الشر الإلهي هو أعظم مظاهر الشر المطلق، إذ هو الشر الذي يقطع حبل الارتباط بالخالق، ويجعل الإنسان يتوه في عالم المادة واللذة”.

يعتبر طه عبد الرحمن أن العصر الحديث قد شهد تفشيًا لهذا النوع من الشر المطلق، خاصة في ظل ما أسماه “العدمية الحضارية”، في رأيه، الحداثة رغم ما قدمته من إنجازات علمية ومادية، أدت إلى أزمة روحية عميقة. لقد أصبح الإنسان المعاصر غارقًا في النزعة الاستهلاكية، منقطعًا عن أصوله الروحية، مما جعله ضحية للشر المطلق الذي يتجلى في شكل تسليع البشر وتفكك الروابط الأخلاقية، ويعلق على هذا بقوله: “إن الشر المطلق في الحداثة هو انفصال الإنسان عن الإيمان والقيم الكونية الكبرى، ما يؤدي إلى تسليع الإنسان وتشييئه”.

لكن طه عبد الرحمن لا يكتفي بتوصيف الشر المطلق، بل يقدم رؤية لمواجهته، حيث يعتبر أن مقاومة هذا الشر تبدأ بإعادة الإنسان إلى جذوره الأخلاقية والروحية، حيث الإيمان بالله هو الأساس الذي يبني عليه الإنسان قيمته الحقيقية، كما يدعو إلى تبني ما يسميه “الأخلاق الروحية”، وهي أخلاق تجعل الرحمة محورًا للعلاقات الإنسانية، وتعيد التوازن بين الروح والجسد، وبين المادة والمعنى. وفي هذا الإطار، يقول: “إن مقاومة الشر المطلق لا تكون إلا عبر العودة إلى الله، وإحياء الصلة بين الإنسان وربه، وجعل الروح فوق المادة والقيم فوق المصالح.”

في الأخير، يرى طه عبد الرحمن أن إصلاح العالم يبدأ بإصلاح الإنسان، فمن خلال إعادة الإنسان إلى القيم الروحية العميقة، يمكننا مواجهة الشر المطلق بأبعاده المختلفة، هذا النهج يعيد الاعتبار للإنسان ككائن يحمل في داخله مسؤولية كبرى تجاه ذاته وتجاه الآخرين، وكما يقول طه عبد الرحمن: “إن القضاء على الشر المطلق لا يكون بإصلاح العالم فحسب، وإنما بإصلاح الإنسان ذاته أولاً”، بهذه الرؤية يقدم قراءة فلسفية تتجاوز التوصيف النظري لتضع الحلول العملية لمواجهة الشر الذي يهدد الإنسان في وجوده الأخلاقي والروحي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *