الفائدة المرجوة من اللسانيات

اللغة هي الموضوع الرئيس في الدرس اللساني ويمكن تعريف اللسانيات من هذا المنظور على أنها دراسة اللغة وفقا للمبادئ العلمية كما أن هذا اللفظ يمكن أن يكون جزءا من مركبات مصطلحية تشير إلى فروع الدراسة اللسانية مثل اللسانيات التطبيقية واللسانيات النفسية واللسانيات الحاسوبية …[1] يظهر في هذا التعريف أمور مهمة تخص الدرس اللساني وهي: علميته وموضوعه وفروعه. أما علمية اللسانيات فهي موضوع نقاش كبير لكن يستقر الأمر على أنها علم من العلوم الفيزياء والكيمياء والأحياء … ولا يمكن إصدار هذا الحكم إلا بتوفر مجموعة المبادئ التي قررها فلاسفة العلم:

  • استخدام المنهج التجريبي في دراسة الظاهرة اللغوية اعتمادا على الوصف والتفسير. .

  • تحديد موضوع العلم وهو اللغة.

  • النظر في علاقة العلم بغيره باعتبار التأثر والتأثير – وهذا يظهر في اللسانيات بشدة مما يؤدي إلى ظهور مجموعة من العلوم البينية.

  • التوفر على مجموعة من المصطلحات الخاصة بالعلم.

أما الحاجة إلى اللسانيات فتظهر في موضوعها وفروعها، فهي دراسة اللغة. كما سبق ذكره. وتكتسب هذه الدراسة أهميتها في كون اللغة النقطة الفاصلة والمميزة للإنسان، و إذا استحضرنا المنظور التطوري سنجد داروين يلخص رؤيته للغة في أن الإنسان يستطيع ربط أكثر الأصوات و الأفكار اختلافا بعضها ببعض[2]. فهذه الملكة – اللغة – تعتبر على أنها من الفوارق المهمة بين الإنسان وبقية الأنواع. فيكون بذلك الاهتمام باللغة بؤرة للبحث في کوامن الذهن الإنساني خاصة مع اللسانيات التوليدية التي تسعى جاهدة إلى البحث في ما وراء اللغة المنطوقة وذلك من خلال إشارة تشومسكي إلى نوعين من اللغة:

  • اللغة الداخلية: وهي إجرائية فردية، ويزيد تشومسكي بأن يفترض أنها خصيصة أحيائية عند البشر ومكون فرعي للدماغ (إلى حد بعيد) و عضو في الذهن بالمعنى التقريبي الذي يستعمل فيه مصطلح عضو في علم الأحياء.

  • اللغة الخارجية: تلك التي يرى الكثير من الباحثين أنها تمثل مدونة من المادة اللغوية أو هي مجموعة غير نهائية مولدة توليدا ضعيفا[3].

وتعتبر اللغة الداخلية محور الدراسة في اللسانيات التوليدية وكان هذا التحول من دراسة اللغة المجسدة اعتمادا على المنهج الوصفي – كما هو الحال عند رواد المدرسة البنيوية إلى الاهتمام باللغة الداخلية أو الملكة اللغوية التي تتمركز في الذهن الدماغ بسبب اندراج اللسانيات التوليدية في ما يسمى بالعلوم المعرفية التي تقوم على الانصراف من الاهتمام بتوصيف بنية الشيء إلى الاهتمام بالكشف عن الآليات الذهنية التي تولد الشيء لذلك تم استجلاب اللسانيات في هذا الإطار من مستوى الاشتغال بتوصيف البنية إلى مستوى الفعل الذي يولد البنية . وهذا هو المشروع الذي تندرج ضمنه اللسانيات التوليدية ، وعليه تكون كل دراسة لسانية للغة معينة (اللسان بتعبير سوسیر) تتوخى من ذلك:

  • رصد مظاهر الملكة اللغوية العامة (النحو الكلي الذي تشترك فيه كل الألسن).

  • رصد الفروق النسقية بين الألسن، التي تمثل تجسيدا للملكة الخاصة المكتسبة.[4]

وبالعودة إلى التعريف الذي أوردناه في أول المقال فقد أشار إلى فروع الدراسة اللسانية التي تندرج ضمن الجانب التطبيقي منها ، وهذا يستدعي وجود فرع نظري يهتم بوضع نماذج للمعرفة اللغوية بناء على مستويات متراتبة في دراسة اللغة يتم تحديدها حسب الوحدات الأساسية التي يعنى بها المستوى اللساني:

  • الصوتيات phonetics تدرس الصوت اللغوي phone

  • الصواتة phonology تدرس الوحدة الصوتية الصغرى phoneme

  • الصرف morphology يدرس أصغر صرفة morpheme

  • التركيب Syntax ويكون المحور الأساسي فيه هو الجملة sentence

وسأحاول التركيز في الحديث عن اللسانيات التطبيقية على فائدة فرع مهم وهو اللسانيات الحاسوبية وذلك راجع لما يتبوؤه هذا العلم من المكانة بسبب التطور المهول في التكنولوجيا وتنامي تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتفاعل بين الإنسان والحاسوبية ، ويمكن تعريف اللسانيات الحاسوبية بأنها العلم الذي يبحث في الطرق والوسائل ويضع القواعد ويصمم النماذج الرياضية الصورية للتراكيب اللغوية التي تساعد في جعل الآلة قادرة على معالجة اللغات البشرية بجميع مستوياتها للوصول إلى نظام حاسوبي يحاكي القدرة البشرية في معالجة اللغة الطبيعية ، وقد كانت العديد من التجارب الناجحة في هذا المجال بفعل الجهود التي قدمتها اللسانيات لتفسير العديد من الظواهر اللغوية ” وقد ساهم النحو التوليدي ، بدراسة اللغة البشرية وفي التقدم التقني للحوسبة(computation).[5] فقد تمكن تشومسكي في إطار النظرية التوليدية بصياغة اللغة وترجمتها إلى رموز رياضية ليتمكن الحاسوب من فهمها ومحاكاتها حيث استخدم قواعد إعادة الكتابة للتعرف على بنية جمل اللغات الطبيعية، ومع ذلك فإننا مازلنا نحتاج مراجعة شاملة للمنظومة اللغوية وتقديم حلول جديدة لبعض القضايا القديمة تتناسب ومتطلبات الحاجة التكنولوجية. ولا يشك أحد في أهمية الحوسبة للغة العربية فهي تعاني مجموعة من التحديات منها ضعف مواكبة المجتمع المعرفي الجديد بسبب الفقر في المجال المذكور، إضافة إلى أننا سنتمكن من تجاوز عقبات كثيرة في بناء معاجم عربية وحوسبتها، وبناء محللات صرفية ونحوية ودلالية.. لذلك يتحتم علينا دراسة اللغة العربية ومحاولة توصيف قواعدها، وميكنتها بالحاسوب، مستفيدين من خصائصها في تطوير البرمجيات، وبناء قواعد معطيات تساعد في معالجتها آلية.

ولا ننسى فرعا مهما أيضا وهو اللسانيات النفسية الذي ظهر مؤخرا ويدرس اكتساب اللغة ويرصد آليات هذه العملية التي يقوم بها الطفل دون أدنى جهد مع التعقيد المذهل للغة، فيحاول تطبيق نتائج هذه الدراسة في تعلم اللغة الثانية، وعلاج أمراض واضطرابات الكلام كالحبسة وهي فقدان القدرة اللغوية نتيجة عطب دماغي في المنطقة المسؤولة عن اللغة حيث يقوم المتخصصون في هذا المجال بالكشف عن القدرات اللغوية الأخرى السليمة عند المريض، ثم يركزون على هذه القدرات التي يمكن أن تحل مكان القدرات المريضة.[6]

إن اللسانيات بما هي علم حديث النشأة والمنهج أصبحت أداة يتمرس بها عالم الحاسوب للتطوير من نجاعة تطبيقاته الذكية، ويستعملها خبير العلوم الإنسانية والاجتماعية لمعرفة كوامن الذهن البشري (علم النفس)، وتحليل وتفسير العلاقات الاجتماعية.


[1] The Cambridge Dictionary of Linguistics. P269>.

[2] تشارلز، داروين. نشأة الإنسان والانتقاء الجنسي. ص235 وما بعدها.

[3] تشومسكي، نعوم. أي نوع من المخلوقات نحن؟ ص56.

[4] الفهري، الفاسي. البناء الموازي. ص19.

[5] المهيوبي، عبد العزيز. التحليل لصرفي، ضمن مدخل إلى اللسانيات الحاسوبية. ص45.

[6] الوعر، مازن. قضايا أساسية في علم اللسانيات الحديث. ص326.