“في الهامش، يُعاد اختراع الإنسان؛ ليس ككيان متمرد فحسب، بل كمنارة تنير الدرب للآخرين.”
لطالما كانت فكرة “الهامش” محط تساؤل في الفكر الإنساني؛ الهامش هنا ليس فضاء جغرافيًا أو اجتماعيًا فقط، بل هو رمز يتجاوز المعنى المباشر ليحيل إلى الوجود البشري نفسه بكل تناقضاته. الهامش هو الفضاء الذي لا تحدّه القيود، حيث يمكن للإنسان أن ينأى بنفسه عن ثقل الأعراف والأنظمة التي تحكم المركز. في المركز، يتشكل الإنسان تحت ضغط الأعراف، حيث تُصقل هويته وفق قواعد صارمة تسعى لفرض نمط معين من الحياة، بينما في الهامش، ينفتح الأفق ليتيح مساحة للذات كي تعيد تعريف نفسها وتكتشف أعماقًا جديدة من وجودها.
هذا ما يجعلنا نتساءل: لماذا نحتاج إلى الهامش؟ ولماذا يجد الإنسان فيه حرية لم يجدها في المركز؟ لأن المركز بطبيعته ساحة مكتظة بالمعايير الجاهزة والتوقعات التي تُلزم الفرد بالخضوع لمنطق الجماعة. إنه مجال السلطة، حيث تُعبر الأدوار الاجتماعية عن نفسها بأقصى درجات الانضباط، وهو أيضًا مجال الوحدة الخانقة رغم الازدحام، حيث يُفقد الإنسان اتصاله الحقيقي بذاته. أما الهامش، في المقابل، فهو ملاذ الحرية والبساطة، حيث لا تُفرض المعايير إلا بقدر ما يُقررها الفرد نفسه. إذن، الهامش هو فضاء يُعيد فيه الإنسان بناء علاقته بالعالم دون قيود مسبقة.
يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: “الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرًا”، لكن: هل هذه الحرية المطلقة ممكنة في قلب المركز، حيث تُفرض القواعد الصارمة والمعايير القهرية؟ المركز، في جوهره، هو موطن النظام والقانون، لكنه أيضًا موطن الضغوط الاجتماعية والتوقعات القاتلة. أما الهامش، فهو فضاء يتيح للإنسان أن يعيد اكتشاف ذاته بعيدًا عن القيود. الهامش هو مكان الرفض، حيث ينسحب الإنسان ليُعيد تعريف هويته. في هذا السياق، يشبه الهامش إلى حد كبير “الفراغ الإبداعي” الذي تحدث عنه هايدغر، حين قال: “الفن يكشف الحقيقة الكامنة في الوجود”. على الهامش، تتجلى الحقيقة بوضوح، بعيدًا عن أقنعة المركز.
يرى ألبير كامو أن العبث هو جوهر الحياة، إذ قال: “العبث يولد عندما يصطدم الإنسان برغبته في المعنى في عالم يفتقر إلى أي معنى”. الهامش هنا ليس فقط فضاءً ماديًا، بل هو حالة ذهنية يهرب فيها الإنسان من هذا الاصطدام العبثي، إنه ملجأ من مواجهة هذا العبث، حيث يسمح للإنسان بإعادة تعريف علاقته بالوجود. الهامش يُمثل أيضًا الثورة على السائد، فهو ليس مكان الهروب فقط، بل هو الفضاء الذي تُزرع فيه بذور التغيير، يقول غرامشي: “التاريخ يصنعه المهمشون”. إذن، الهامش هو الميدان الذي يشتعل فيه الصراع بين المألوف والجديد، بين الركود والحركة.
عند الحديث عن الهامش فلسفيًا، لا يمكن تجاهل مفهوم “الآخرية” لدى إيمانويل ليفيناس. فالآخر، كما يصفه ليفيناس، هو ذاك الذي يُعرّفنا بحدود ذواتنا. والهامش هو المكان الذي يزدهر فيه الآخر؛ حيث تختفي المركزية الأنانية ليبرز المختلف، المستبعد، واللامرئي…، الهامش ليس إذن نقصًا أو عيبًا، بل هو فضاء تكويني يجعلنا نعيد التفكير في علاقتنا بالذات والآخر.
إن فلسفة الهامش ليست دعوة للانعزال أو التقوقع، بل هي احتفاء بالتعددية والاختلاف، فالهامش يُذكّرنا بأن المعنى الحقيقي للحياة لا يُصنع في مراكز القوة، بل في الزوايا المنسية، حيث تتشابك حكايات البسطاء مع أحلام العظماء، يقول نيتشه في هذا الصدد: “ما وراء الخير والشر يكمن العالم الحقيقي”. وربما ما وراء الهامش والمركز يكمن الوجود الحقيقي للإنسان. في الأخير، الهامش هو دعوة لإعادة النظر في علاقتنا بكل ما هو سائد، لتكتشف أعماقًا ربما لم نتخيل وجودها. فهل نحن مستعدون لاحتضان الهامش كجزء أصيل من كينونتنا؟
اترك تعليقاً