“عامل البناء ليس شخصية مهمشة فقط؛ إنه روح الحضارة التي يجب أن نتعلم كيف نراها ونقدرها.”
في كل مدينة تُبنى، كل ناطحة سحاب تخترق السماء، وكل جسر يمتد ليصل بين الضفاف، هناك أيدٍ خفية حملت الأحجار، وصبّت الإسمنت، وشكّلت الحديد.. أيدٍ خشنة من أثر العمل، قوية كالصخر الذي ترفعه، لكنها غائبة عن أذهاننا حين نتأمل جمال البناء.. عامل البناء، هذا الجندي المجهول في معركة الحضارة، لا يتصدر المشهد ولا يُكتب اسمه على اللوحات التذكارية، رغم أنه العمود الفقري لكل ما نراه من إنجازات عمرانية.
تسير في شوارع المدينة، معجبًا بمبانيها الشامخة، ولا تفكر لوهلة في أولئك الذين عانوا من أجل أن تُبنى. كما قال والتر بنيامين: “كل نصب حضاري هو في الوقت نفسه أثر بربري”، عامل البناء هو ذلك الأثر البربري؛ صانع الحضارة الذي أُبعد عن صفحتها الأولى، وظل محصورًا في الهوامش.
عامل البناء لا يعمل فقط بجسده، بل بحياته كلها. إنه يستثمر يومه وليله، صحته ومستقبله، في بناء ما لن يسكنه، ولن يحمل اسمه، إنه يتسلق السقالات كل صباح، في مواجهة السماء والأرض، معرّضًا حياته للخطر في كل لحظة.. ورغم ذلك حين ينهار بناء، يُلام المهندس أو المقاول، وحين يُشاد، يُحتفى بأسماء الممولين، أما العامل، فهو الحاضر الغائب، الموجود كقوة عاملة لا كشخصية تستحق الاعتراف.
تحدث ماركس عن “اغتراب العامل”، حيث يتحول العامل إلى ترس في آلة الإنتاج، منفصلًا عن ثمار عمله، لكن عامل البناء يعاني من اغتراب مزدوج؛ ليس فقط عن إنتاجه، بل عن القيمة الاجتماعية التي يستحقها، إنه يبني القصور، لكنه يسكن في العشوائيات؛ يصنع الجسور، لكنه يعبرها كل يوم عائدًا إلى مكانٍ لا يُشبه ما بناه.
عامل البناء ليس رمزًا للكادحين فقط، بل هو تجسيد لفلسفة الظل. إنه القوة التي تحرّك العالم دون أن تطالب بشيء، كما قال هيدغر: “الكينونة تُفهم غالبًا من خلال ما لا يُرى، لا من خلال ما يُرى”، إن عمل البناء ليس فقط بناء الحجر، بل بناء وجودنا ذاته. الأحياء التي نسكنها، المكاتب التي نعمل فيها، الشوارع التي نسير عليها؛ كلها تحمل بصمة هؤلاء الذين لا نعرف أسماءهم. ومع ذلك، يعيش عامل البناء في زمن لا يعترف إلا بالواجهة، حيث يُقاس النجاح بما يظهر، أما الجهد الذي يقف خلفه، فيُنسى أو يُتجاهل، لكن هل يمكننا حقًا أن نفصل بين الواجهة والأساس؟ هل يمكن للمدينة أن تستمر بدون تلك الأيدي التي بنتها؟
عامل البناء ليس بحاجة إلى تمجيد، بقدر ما هو بحاجة إلى اعتراف بإنسانيته. إنه يريد أن يُعامل كفاعل في المجتمع، لا كوسيلة تُستهلك، الاعتراف به ليس فقط مسألة إنصاف اجتماعي، بل هو دعوة لإعادة النظر في قيمنا، في معاييرنا التي تفضل السطحي على الجوهري. كما قال نيتشه: “ما يُبنى على الألم، لا يلبث أن ينهار”، الحضارات التي تنسى صانعيها، أو تتجاهل تضحياتهم، هي حضارات معرضة للسقوط.. عامل البناء لا يطلب شيئًا سوى أن يكون جزءًا من هذا البناء الذي كرّس حياته له، أن يحظى بمكان في سردية المجتمع، بدلًا من أن يظل عالقًا في الظل. إن الحديث عن عامل البناء ليس حديثًا عن مهنة، بل عن قيمة، إنه تذكير بأن الحضارة ليست مبانٍ فقط، بل هي قصص وأشخاص وتضحيات.. عامل البناء هو حامل التاريخ الحقيقي؛ ليس فقط لأنه يضع الطوب فوق الطوب، بل لأنه يضع جزءًا من روحه في كل بناء.
في الأخير، حين ننظر إلى المدينة، لنتوقف لحظة عن النظر إلى الأعلى، ولنفكر في القاع الذي صعد منه كل شيء، هناك في العرق الذي يسيل تحت الشمس، في الأيدي التي تمزقت بفعل العمل، يكمن تاريخنا الحقيقي.
اترك تعليقاً