لغة Molière في السنغال: من وصمة اجتماعية إلى صناعة النخبة الوطنية

قد لا نجانب الحقيقة حالما ندعي بأن الفعل الكولونيالي كحدث تاريخي شكل أول لقاء تفاعلي “للذات السنغالية”(الأنا) مع الآخر بشكل أسفر عن إعادة بناء الجسد الاجتماعي للمجتمع السنغالي ككل. إن التجربة السنغالية مع المستعمر الفرنسي لا يمكن بأي حال من الأحوال تصورها ومقاربتها بمعزل عن التجارب الاستعمارية الأخرى، سواء تلك التي عرفها الإقليم من المستعمر الفرنسي أو تلك التي عرفها الشرق من المستعمر الإنجليزي، غير أن ما يُشكل فارقا أساسيا بين تجربة وأخرى هو خصوصيات البنى الاجتماعية في المستعمَرات وانعكاساتها على الإدارة الاستعمارية في كل مجتمع على حدة. إن الادعاء فوقه والذي تمحور حول كون لقاء “الأنا السنغالية” بالآخر المستعمِر أول لقاء أسفر عن إعادة تشكيلة البنى الاجتماعية بإعادة تركيب الجسد المعرفي في المجتمع، لا يتنافى مع أهمية لقاء ذات الأنا وأقصد هنا “الأنا السنغالية” بالآخر المسيحي والاسلامي وذلك قبل الفعل الكولونيالي. إلا أن لقاء “الأنا السنغالية” بالآخر المسيحي والاسلامي وإن ساهم بشكل كبير في تفكيك البناء الكلي للجسد الاجتماعي وغَيًرَ تصور هذه الأنا للكون عن طريق إله توحيدي يتجسد في شخص المسيح (التصور المسيحي للكون) أو عن طريق ختم النبوًة ويتجسد هذا التصور في شخص محمد (التصور الاسلامي للكون)،[1]فإن حدة تفكُك الجسد الاجتماعي السنغالي وما صاحبها من تغييرات على مستوى أنظمة الجسد المعرفي والتي أسفر عنها لقاء هذه الأنا بالآخر السياسي “المستعمر الفرنسي” هي كل يجعل هذا اللقاء مثيرا أكثر في تقديري من اللقاء بالآخر التديني (اللقاء بالمسيحية والاسلام كديانات) وتتمثل لغة Molière المحور المركزي في صناعة هذا الفارق بين ما أسرفت عنه هذه اللقاءات من تحولات بنيوية في المجتمع.

لغة Molière وصمة اجتماعية:

تمكن الانتشار الاسلامي في السنغال منذ دخوله إلى لحظة الاستعمار من جعل الاسلام دين الأغلبية في المنطقة، ولا يمكن الحديث عن هذا الانتشار بمعزل عن انتشار اللغة العربية وأشكال تدريسها التقليدية كلغة التدين الاسلامي. فيُفهم من ذلك أن حدة التحولات البنيوية التي صاحبت لقاء ” الأنا السنغالية” بالآخر المستعمر الفرنسي ما كانت تكمن في كون هذا اللقاء مصحوبا بلغة جديدة إذ أن اللقاء مع الآخر الاسلامي كان كذلك مصحوبا بلغة جديدة والتي كانت اللغة العربية. غير اللغة الفرنسية لعبت دور المحرك للجسد المعرفي ودور المُتَحكِم في المنطق الداخلي لهذه المعرفة، في الحين الذي ظلت فيه اللغة العربية لغة التدين مرتبطة بمنظومة المقدسات أكثر من ارتباطها بجسد المعرفة (عمليات الانتاج المعرفي عن الذات والآخر). يدعي الكاتب الأمريكي وأستاذ الدراسات الإفريقية في جامعة Florida الأمريكية   Leonardo A. Villalonوذلك في كتابه “Islamic Society and State power in Senegal: disciples and citizen in Fatick” بإن الطابع القديس للعربية في التدين الاسلامي للأهالي في المنطقة هو كلما سيجعل اللغة الفرنسية في تقدير الوعي الجمعي للأغلبية الاسلامية وصمة اجتماعية لكل من يتحدث بها من الأهالي.[2] في اعتقادي لا يجانب ادعاء Leonardo موقف بعض التوجهات التدينية من الأهالي من اللغة الفرنسية آنئذ. بل أكثر من ذلك فكون اللغة الفرنسية عند الوعي الجمعي في بكورة الفعل الكولونيالي وصمة اجتماعية لمن يتلفظ بها، كان يتمثل في أنها أي الفرنسية ارتبطت بالمسيحية كدين ولعل اطلاقا اسم “nasaran” على اللغة الفرنسية والذي أشتق من كلمة “النصرانية” يكون دليلا على هذا. فبهذا بقيت الفرنسية وصمة اجتماعية خارجة عن الاختيار التفضيلي للأهالي وخاصة التوجهات التدينية الاسلامية منهم إلى أن قررت الادارة الاستعمارية تعليمهم إياها.

لغة Molière مَصْنَعُ النخبة الوطنية ومحرك الجسد المعرفي:

إن قرار فرض اللغة الفرنسية على الأهالي من خلال المؤسسات التعليمية التي أقامتها المستعمِر في المنطقة من أول تربوي فرنسي أرسل إلى المنطقة Jean Dard في aout  1816  مرورا بتأسيس ecole mutuele de saint luis  إلى تأسيس ecole du village و ecole regionale إلى Ecole normale de saint luis،[3] شكل مسارا لإعادة تشكيل الجسد المعرفي وصناعة نخبة وطنية. فإلى جانب كون اللغة الفرنسية لغة التعليم الذي تمحور أغلب جزئياته حول مقارنة التراجيديا (التاريخي الدموي للأهالي) بحاضرهم الذي زعم المستعمِر أنه واقع تحضيري وتأهيلي لغد حضاري تقدمي وفق البراديغم الأوروبي، كانت اللغة الفرنسية في الآن ذاته سُلًما للترقي الاجتماعي ولصناعة نخبة وطنية مساعدة للإدارة الاستعمارية سواء كإداريين في الادارة الاستعمارية أو كمدربين مساعدين للتربويين الفرنسيين قبل أن يتم إدماج خريجي école normale de saint luis في المنظومة التعليمية كتربويين من الأهالي. وبهذا التحول البنيوي للغة الفرنسية في المجتمع المحلي تحولت الوصمة الاجتماعية عند معظم الشرائح الاجتماعية لتصبح وسيلة للتراقي الاجتماعي والوظيفي.


[1] أنظر، عبد الجبار الرفاعي، تمهيد لدراسة فلسفة الدين، (بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين،2014)

[2] Islamic Society and State power in Senegal: disciples and citizen in Fatick (Cambridge University Press 1995)   Leonardo A. Villalon,

[3] Marie Laurence Baye, l’enseignement primaire au Sénégal de 1903 a 1920, (revue française de pédagogie 2018)