مراجعة كتاب: الإنسان ذو البعد الواحد

الكتاب وبشكل موجز، هو محاولة قيمة  لنقد المجتمع الصناعي من منظور موضوعي لحد ما، حيث نجد ماركوز في هذا الكتاب قد اتخذ منحى بنيوي ماركسي غير تقليدي في نقده للمجتمع البرجوازي الذي تسكنه الهيمنة المجتمعية والمعرفية، من خلال العولمة  والرأسمالية المتوحشة، التي استطاعت أن تسيطر على الأفراد من خلال تلبية الحاجات التي تتعدد بتعدد الرغبات. الكتاب بشكل عام هو محاولة لفهم المجتمع الغربي المعاصر، المدجن بالاستلاب الرأسمالي الليبرالي الذي يمارس على الأفراد في هذه المجتمعات، ويقيد حريتهم بحيث لا يمكن الشعور بهذه السيطرة، نظرا للتطور التكنولوجي والصناعي الهائل الذي يغطي ويعمق هذه السيطرة حد عدم الشعور بها.

ينطلق الكاتب في كتابه من سؤال مركزي أساسي، وهو كيف أن الثورة لم تتحقق بل باتت شبه مستحيلة في عالم يمتلك منذ أكثر من قرن القوة الكلاسيكية للثورة، أي البروليتاريا الصناعية؟

في هذه القراءة نحاول استعراض أهم النقاط والمزاعم التي قدمها هربرت ماركوز في هذا الكتاب، كما نحاول تسليط الضوء على بعض الحالات التي يحاول الكاتب إثباتها ونقدها بغرض إعطاء محتوى مفهوم ومنطقي لما قدمه الكتاب. يتألف الكتاب من ثلاث فصول رئيسية، يتفرع كل فصل على مجموعة من المحددات، يتناول الكاتب في الفصل الأول طبيعة المجتمع ما بعد الصناعي، يدرس في هذا الفصل الأسباب الكامنة في هذا المجتمع، كما يتطرق في الفصل الثاني على محددات المجتمع الأحادي البعد، الذي يركز فيه مركوز على أشكال الرقابة الجديدة التي يفتقد فيها الإنسان حريته في إطار ديمقراطي، إنغلاق العالم السياسي في مجتمع التعبئة الشاملة، وغزو الضمير التعيس مثلما يعبر عنه الكاتب، الذي يدرس فيه كيف أن العقلانية التكنولوجية هيمنت على القطاعات المتقدمة من المجتمع المعاصر، أما في الفصل الثالث فيتناول الكاتب مضمون الكتاب وهو الفكر ذو البعد الواحد، الذي يقسمه إلى الفكر السلبي وإحباط منطق التناقض، من الفكر السلبي إلى الفكر الإيجابي العقلانية التكنولوجية ومنطق السيطرة، أما في الفصل الأخير يتطرق فيه إلى آفاق التغيير التاريخي وفلسفته، التي يعطي فيها التصور العام لنظرته الخاصة للمجتمع الصناعي المعاصر.

يحاول ماركوز الإجابة على الإشكال المركزي الذي طرحه، من خلال تفكيك بنية المجتمع المعاصر الذي تحكمه التكنولوجيا والصناعات المتطورة، التي تحقق الهيمنة الشاملة على الفرد بشكل عقلاني، عكس الماضي الذي كانت الهيمنة فيه بشكل غير عقلاني، مما أتاح للفرد القدرة على المطالبة بالتغيير والاحتجاج. يقدم لنا الكاتب أن السيطرة الاجتماعية لعصر الحداثة والتطور التكنولوجي تكمن في عقلانيتها، التي يشير فيها أن هذا التطور أصبح يستبق أي مطالبة بالتغيير تلقائيا، حيث يجد الفرد كل احتياجاته التي توهمه بها الاعلانات والكم الهائل من الازدهار الصناعي، يمكنه الحصول عليها نظرا للقدرة الدائمة على زيادة الإنتاجية التي توفر حياة الرفاه والازدهار للأفراد. يؤكد ذلك من خلال قوله ” أن انقسام المجتمع إلى طبقات يستغل أحدهما الأخر، هو أحد المظاهر الأساسية اللاعقلانية، لكن هذا المجتمع يقوم بتمويه ذلك ليبدو أحد مظاهر التلاحم الطبقي، كأن يقوم العامل ورب العمل بمشاهدة نفس برامج التلفاز، أو أن ترتدي السكرتيرة نفس ملابس ابنة صاحب العمل الأنيقة، وأن يركب الزنجي الذي لا حقوق مدنية له سيارة الكاديلاك الفارهة”[1].

يفترض بعدها الكاتب أن المجتمع الصناعي في تركيبته الداخلية، ينحو منحى التقارب والاندماج داخليا، ويستبعد كل أشكال التنافر والتناقض، وعليه فإنه مجتمع أحادي البعد، ومن هذا المنطلق يطرح الكاتب سؤال جوهري يحاول الإجابة عليه وهو هل هذه الاحتياجات هي حقيقية وتلقائية أم كاذبة ومصطنعة ومفروضة؟، يجيب الكاتب على هذا السؤال أنها احتياجات مصطنعة لأنها من صنع وسائل الإعلام والإعلانات التي تفرزها الرأسمالية وتغذيها، ومفروضة لأنها خير وسيلة لإنتاج الإنسان ذو البعد الواحد، ويقصد بذلك الإنسان الذي استغنى عن ” الحرية بوهم الحرية، والحقيقة بالخيال والواقع بالصورة، والروح بالجسد”[2]، يدلل ماركوز على ذلك بحجة غاية في الأهمية، حيث نجده يقول أن الإنسان ذو البعد الواحد هو ذاك الإنسان الذي يتصور بأنه حر، بمجرد قدرته على الاختيار من أصناف متعددة من البضائع والخدمات التي يقدمها له المجتمع، قصد تلبية حاجياته، ليشبهه بالعبد الذي يتصور بأنه حر لمجرد أن له الحرية على اختيار أسياده. ينتقل الكاتب بعدها يتضح لنا دور التكنولوجيا في تنميط الإنسان المعاصر، وتحويله من إنسان متوازن مع طبيعته، إلى إنسان يغزو الطبيعة ويحاول التغلب عليها، حيث العلاقات الاجتماعية أصبحت أدوات مسيطر عليها، بعد ما كانت عبارة عن قوة تحررية، لأن التكنولوجيا تراهن على استعباد الإنسان وتحويله إلى أداة، كما يؤكد أيضا في نفس النقطة أن التكنولوجيا هي في الأساس عبارة عن سياسة، لأن منطقها هو منطق الهيمنة والسلطة، ولأنها تخدم القوى المسيطرة اجتماعيا. يؤكد الكاتب أيضا أن المجتمع الصناعي لم يزييف الحاجات المادية فقط، بل انتقل أيضا لتمييع وتزييف الحاجات الفكرية، ويقصد بذلك أن صراع الطبقات يحدده الوعي، ولتمييع وتزييف هذا الوعي، وجب على المجتمع ذي البعد الواحد تركيب قوة أيديولوجية تسمح له بالاستمرار في السيطرة، ويفترض الكاتب أن القوة الأيديولوجية هي كما أسماها المدنية التقنية، والتي يقصد بها استمرارية عملية الإنتاج في المجتمع، لتصبح هي القوة المحركة والمسيطرة للمجتمع. وبالتالي تجعل الناس ترتبط بالمنتج بصورة محببة، وتصنع وعيا زائفا عديم الاحساس بما فيه من زيف. ينتقل الكاتب بعدها للحديث عن دور السياسة في المجتمع الصناعي المعاصر، الذي يعتبره بالأساس هو عالما استبداديا توتاليتاريا، حيث يؤكد ماركوز أن العالم الصناعي له القدرة الكاملة على تغيير والالتفاف لأي محاولة لمعارضته، وذلك عبر كل الوسائل التي أشرنا إليها سابقا من جهة، ومن جهة أخرى عبر السلطة السياسية ، التي أصبحت ظاهريا عبارة عن أنظمة ديمقراطية، غير أن الحقيقة هي عبارة عن عملية امتصاص لقوى المعارضة الحقيقية، ويدلل على ذلك من خلال أنظمة الحزبين، الذين يمثلان قطبي تعارض المجتمع، والذي يعتبره ماركوز هو تعارض زائف غير حقيقي، بل هدفه الأساس هو نسف المعارضة الحقيقية، ويقدم مثال بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث نجد أن النموذج المتبع لا يُمكن للمواطنين التمييز بين برامج الحزبين الداخلية والخارجية، وفي نفس الإطار يوجه ماركوز نقده إلى الأحزاب الثورية، التي حادت عن الهدف الأساسي لوجودها، وذلك نظرا لتفشي الانتهازية والمصلحة ومسايرة النظام القائم بدل محاولة تغييره بأسس سليمة، يعطي مثال على ذلك بالأحزاب الشيوعية الفرنسية والإيطالية. في هذا الصدد يحاجج ماركوز، أن هناك محددين رئيسيين للسلطة السياسية المعاصرة، التي تُمكنها من إفشال أي محاولة للتغيير من قبل المعارضة، المحدد الأول هو أن الدولة هي دولة رفاه ورغد، تخلق رغبات وهمية للناس ومن ثم تعمل على تلبيتها وتحقيقها، أما المحدد الثاني الأساسي، وهو أن الدولة دائما ما تكون في حالة حرب، وبالتالي تحاول تجييش عدد هائل من الأفراد لمواجهة الخطر الدائم والمهدد لها، للإبقاء على نفسها واستنزاف أي قوة تغييرية حقيقية.

بناءا على ما جاء ذكره سابقا، فإن نظرية ماركيوز أعطت لنا بعدا جديدا لفهم المجتمع الصناعي المعاصر، حيث حاول ماكيوز إحداث نقلة نوعية للنظرية النقدية الكلاسيكية أو ما يعرف عليه النظرية الماركسية، بحيث نجد أن ماركيوز قد أخذ منحى آخر في تفسيره لطبيعة هيمنة الرأسمالية الليبرالية، منطلقا في ذلك على محاولة إعادة إكتشاف قوانين التاريخ التي تحكم المجتمعات وأهم ثيماتها، غير أن ما يمكن التماسه عند قراءة الكتاب هو، غياب الصلة بين العالم المتخلف والعالم المتقدمة، وعلاقة المركز بالهامش، يمكن النظر إلى أن الكتاب في حد ذاته عبارة عن إمتداد لنظرية لينين، وتعمق أكثر في تحليل بنية المجتمع المتقدم، قصد إعطاء مساحة أكبر لفهم الأطر التي تحكم هذه المجتمعات والخلل الذي يمكن أن يحدث لدولة الرفاه، لا يمكننا الجزم بكل ما قاله ماركيوز في الكتاب والنظرة التشائمية للمجتمعات الصناعية، إلا أن ما يمكن حقيقة اعتباره إضافة جدا قوية للنظرية النقدية الكلاسيكية هو إختراق الإعلام والتكنولوجيا للوعي البشري، الذي أصبح ليس فقط يتحكم في المجتمعات الصناعية، بل انتقل أيضا إلى المجتمعات الغير صناعية، في نقلة نوعية لدرجة التأثير الذي تحدثه التكنولوجيا في عالم اليوم. عموما فإن السؤال الذي أتى به ماركيوز في هذا الكتاب، والذي يبحث عن إمكانية الثورة في العالم الصناعي، والتي استطاع الاجابة عنه إلى حد ما، باعتبار الإطار الزمني الذي كُتب فيه الكتاب، غير أن مجتمعات اليوم تغيرت، حيث نجد أن حتى في أحد أهم المجتمعات الصناعية فرنسا مؤخرا، قد تجددت في المجتمع الفرنسي الحالة الثورية، وتشكلت لدينا حالة استثنائية غير مفهومة، يعزوها البعض إلى الخواء الروحي والأيديولوجي للمجتمع، والبعض الآخر مازال يفسرها طبقا لنظرية صراع الطبقات.

إن حراك السترات الصفراء في فرنسا، أصبح يشكل عائق أمام نظرية ماركيوز الذي يفترض إلى حد بعيد استحالة قيام الثورة في المجتمعات الصناعية، مع أنها تتوفر على جميع مقوماتها. كما أن صعود اليمين المتطرف وانتشاره في أوروبا وأمريكا أصبح أيضا يشكل خطر على هذه المجتمعات وديمومتها. يؤكد في هذا الصدد عمار عكاش أن “الوضع المعيشي يتراجع باطراد في أوروبا إضافة إلى أن الفئات المنبوذة و خصوصاً الملونين و المعذبين تـزداد مشكلاتهم تفاقما، القمع من ناحية أخرى ما زال مطروحاً ضمن بينة النظام الرأسمالي حتى في المركز لا سيما حين يتم خرق تابو رأس المال ، هذا ما تجلى في اقـتحام رجال البوليس الفرنسي حرم السوربون الجامعي سنة ٢٠٠٥ لينهالوا بالضرب على الطلبة المعتصمين”[3] وعلى هذا الأساس فإن الوعي المجتمعي في المجتمعات الصناعية، تتراوح مكانها على الرغم من التطور الهائل في الحقل التكنولوجي مما سيزيد من احتمالية البقاء في الوهم الحاصل، وانتقال هذه المجتمعات مع مرور الزمن، إلى مرحلة قد تنعكس المعادلة وتصبح التكنولوجيا أحد أهم العوامل المساعدة لانتشار التحرر المجتمعي ونبذ الرأسمالية المتوحشة.


[1] هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب للنشر، ص٢٩  ، ١٩٨٨

[2] نفس المصدر السابق،

[3] عمار عكاشة، قراءة في كتاب الإنسان ذو البعد الواحد لهربرت ماركيوز :من القمع السافر إلى الهيمنة، تم الاسترداد من موقع الحوار المتمدن، تم النشر بتاريخ 2007 ، تم الوصول إليه بتاريخ ١٦/٠٣/٢٠١٩، http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=111417&r=0