نهضة الأمة الإسلامية.. من الهامش إلى المركز

يقول عبد الرحمان بن خلدون:

“الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد، لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك.”

تعيش الأمة الإسلامية اليوم تحديات غير مسبوقة، تجمع بين أزمات داخلية وتحولات عالمية متسارعة، حيث باتت الأمة التي حملت لواء الحضارة لقرون عديدة، تَقبع في موقع الهامش، بينما تتحكم قوى أخرى بمركزية القرار العالمي. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف يمكن للأمة الإسلامية أن تنتقل من موقع الهامش إلى المركز؟ وهل يمكن أن تستعيد دورها الريادي في عالم متعدد الأقطاب؟

لا يمكن فهم الحاضر دون الغوص في جذور التراجع والانحطاط، فقد أفضت قرون من الاستعمار، والتجزئة السياسية، والتبعية الاقتصادية، إلى إضعاف البنية الاجتماعية والثقافية للأمة، كما ساهم الجمود الفكري، والابتعاد عن قيم الاجتهاد والإبداع، في تعميق هذا التراجع منذ أن أُحرِقَت كتب ابن رشد بناءً على أمر من الخليفة المنصور الموحدي، الذي اتهم ابن رشد بالزندقة، ونفاه إلى قرية اليسانة في الأندلس، التي كان يسكنها أغلبية من اليهود. وأصدر المنصور منشورا يحرم قراءة كتب الفلسفة، لكنه بعد أعوام راجع نفسه وعفا عن ابن رشد، الذي عاد إلى مراكش حيث توفي…، كما يقول ابن خلدون في مقدمته: “والحاضر يشهد لذلك، فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء”، وهذا يعكس كيف تأثرت المجتمعات الإسلامية بالتراجع ثقافة الابداع والاجتهاد منذ القرن 12 الميلادي إلى حدود كتابة هذه الاسطر.

في ذروة ازدهارها، كانت الأمة الإسلامية مركزاً عالمياً للعلم، والفكر، والتجارة…، تمثل هذا الدور في مدن مثل بغداد، وقرطبة، ودمشق، وفاس…، حيث كانت المعرفة مفتاح الصعود الحضاري. إن هذه المركزية لم تكن قائمة على القوة العسكرية فقط، بل على مزيج من القيم الروحية، والعدالة الاجتماعية، والانفتاح الثقافي. يوضح ابن خلدون أهمية الدور الحضاري بقوله: “العمران لا يحصل إلا بالتعاون على المصالح المختلفة للاستعانة وإبلاغ الحاجات، ثم اجتماعهم وتعاونهم على ذلك في العمران”، ما يبرز أهمية العمل الجماعي لتحقيق النهضة.

إقرأ المزيد:  المهمشون.. فلسفة الحضور المنسي في سردية التاريخ

نهضة الأمة الإسلامية تتطلب جملة من التحولات الجوهرية التي تبدأ بتحرير العقل المسلم من القيود التي تعيق الإبداع والاجتهاد، فالتقدم الفكري والعلمي يتصل بازدهار المجتمعات، كما أشار ابن خلدون بقوله: “إن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته”. إضافة إلى ذلك، الوحدة والتكامل يمثلان ضرورة للخروج من حالة التجزئة الحالية، حيث يمكن لمشاريع التكامل الإقليمي والاقتصادي أن تعزز المصالح المشتركة وتواجه تحديات العولمة. علاوة على ذلك، تشكل العدالة الاجتماعية جوهر الرؤية الإسلامية، فهي تقوم على التوزيع العادل للثروات وتمكين الفئات المهمشة، وهو ما أكده ابن خلدون بقوله: “العدل أساس العمران، وظلم مؤذن بخراب العمران”. وأخيراً، الاستثمار في العلم والتكنولوجيا يمثل طريق الأمة نحو المركزية، من خلال بناء منظومات تعليمية قوية، ودعم البحث العلمي، وتوظيف التكنولوجيا بما يخدم مصالحها.

رغم أهمية العناصر المذكورة، تواجه الأمة الإسلامية عقبات متعددة، أبرزها هيمنة قوى خارجية تستفيد من بقاء الأمة في موقع الهامش، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية، وغياب الإرادة السياسية الموحدة. كما يؤكد ابن خلدون: “إذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره”، وهذا يعكس صعوبة مواجهة التغيرات الجذرية إذا لم تُحشد الموارد والإرادات.

في أخير المطاف، نهضة الأمة الإسلامية ليست مهمة مستحيلة، بل مشروع قابل للتحقيق إذا ما توفرت الإرادة والوعي، فلا يمكن للأمة أن تظل عالقة في خطاب الضحية؛ بل يجب أن تتحول إلى فاعل يتبنى قيمه، ويعيد صياغة وجوده في العالم. من الهامش إلى المركز، ليست رحلة جغرافية فقط؛ بل رحلة فكرية، وروحية، وعملية، تبدأ من الداخل وتمتد إلى الخارج. وكما قال ابن خلدون: “إن التاريخ في ظاهره لا يزيد على الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق”، فإن النهضة ليست مجرد حركة إلى الأمام بل عودة واعية إلى الجذور لفهمها وإعادة استثمارها.

إقرأ المزيد:  العوام على هامش التاريخ.. الحكايات المغيبة والمعاناة المنسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *