العدالة في الشرق القديم

في كتابه “السياسة في الشرق القديم”، يقدم المؤرخ الفرنسي إيف شميل قراءة متعمقة للفكر السياسي والقانوني الذي شكَّل الحضارات الشرقية القديمة. من خلال استعراض النصوص القانونية والممارسات الإدارية التي أثرت على هذه المجتمعات، يرسم شميل صورة لعلاقة متداخلة بين السياسة، الدين، والأخلاق، حيث تتجلى العدالة كقيمة مركزية تحكم العلاقة بين الإنسان والمجتمع، وبين الإنسان والكون. في الشرق القديم، لم تكن الشرائع قواعد تنظيمية فقط، بل كانت انعكاسًا لرؤية أخلاقية أوسع تسعى لتحقيق الانسجام بين النظام الاجتماعي والكوني، فقد كانت هذه القوانين ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمقدس، حيث كان الحاكم يُعتبر ممثلًا للآلهة على الأرض، ومسؤولًا عن ضمان استقرار المجتمع والعدل بين أفراده. ووفقًا لشميل، فإن هذه الرؤية تُظهر فهمًا مبكرًا لمسؤولية الحاكم كضامن للعدل، وليس فقط كحاكم مطلق، وفي هذا السياق العدالة لم تكن فكرة قانونية فقط، بل كانت قوة تُبنى عليها الشرعية السياسية.

من بين أقدم النصوص القانونية التي يسلط شميل الضوء عليها، نجد “مدونة إشنونَّا”، التي تعود إلى حضارة بلاد الرافدين، على الرغم من قدمها، تُظهر هذه المدونة تطورًا فكريًا لافتًا في فهم العدالة، حيث ركزت على التعويضات المالية بدلًا من العقوبات الانتقامية الصارمة، مما يشير إلى وعي قانوني يهدف إلى الإصلاح بدل الانتقام، على سبيل المثال: تضمنت القوانين نصوصًا حول ثمن الدم (الدية)، وهو مفهوم يعكس نزعة لتجنب الثأر وإحلال السلام الاجتماعي. هنا، يبرز تصور مختلف للعدالة، حيث تتحول من أداة للعقاب إلى وسيلة لتحقيق التوازن بين الأطراف المتنازعة. يشير شميل إلى أن هذه القوانين، رغم بساطتها الظاهرية مثل صياغة “إذا فعل رجل … فإن …”، تعبر عن بداية وعي إنساني معقد بالمسؤولية والعدل، فبدلًا من الاقتصار على معاقبة الجاني، تسعى القوانين لتعويض الضحية وتهدئة الصراعات الاجتماعية، وهو ما يعكس فهمًا متقدمًا للعلاقة بين الفرد والمجتمع.

في مصر القديمة، يظهر البُعد الأخلاقي للقانون بوضوح في “مرسوم حورمحب”، هذا النص القانوني الذي أصدره الفرعون حورمحب يركز على مكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية. فقد احتوى المرسوم على تحذيرات ضد استغلال السلطة، مع التشديد على ضرورة مساءلة المسؤولين وضمان حقوق المواطنين. يقول شميل إن هذا المرسوم يُظهر فهمًا عميقًا لأهمية بناء الثقة بين الحاكم والمحكومين، حيث كانت العدالة أداة لتعزيز استقرار الدولة. على سبيل المثال: نص المرسوم على منع المسؤولين من سرقة المحاصيل الزراعية أو استغلال العمال، وهو ما يعكس محاولة لحماية الطبقات الفقيرة وضمان توزيع عادل للموارد. في هذا السياق، يُبرز شميل كيف أن الشريعة المصرية القديمة لم تكن مجموعة من النصوص الجامدة فقط، بل كانت تعبيرًا عن رؤية سياسية وأخلاقية تسعى إلى إقامة مجتمع عادل ومنصف.

إلى جانب النصوص القانونية، يتطرق شميل إلى النصوص الأدبية والفلسفية التي ناقشت مفهوم العدالة من منظور أخلاقي وروحي، ففي نصوص بابلية مثل “الإنسان وربه” و”العدل الإلهي”، نرى تأملات عميقة في العلاقة بين الإنسان والكون، مثلا: في النص الأول، يعترف الإنسان بخطاياه ويقبل البلاء كتجربة تكفر عن الذنوب. هنا، يظهر البُعد الروحي للعدالة، حيث تصبح العدالة الإلهية جزءًا من تجربة الإنسان في الحياة، تُوجهه نحو التوبة والإصلاح. أما النص الثاني، فيعكس تساؤلات إنسانية حول عدالة الكون: لماذا ينجح الأشرار بينما يعاني الأبرار؟ هذا السؤال الذي يطرحه النص يعبر عن شكوك إنسانية مبكرة حول مفهوم العدالة، لكنه في الوقت ذاته يدعو إلى الصبر والثقة بحكمة القوانين الإلهية. يشير شميل إلى أن هذه النصوص تعكس وعيًا أخلاقيًا عميقًا بمسؤولية الإنسان تجاه الكون وتجاه نفسه.

من خلال تحليله لهذه النصوص، يُظهر شميل كيف أن العدالة كانت قيمة مركزية في الفكر الشرقي القديم. سواء في مدونة إشنونَّا أو مرسوم حورمحب، نجد رؤية للعدالة تتجاوز التصورات القانونية الضيقة، لتصبح أداة لتحقيق الانسجام بين الإنسان والمجتمع، وبين الإنسان والكون. هذه الرؤية، رغم اختلافها عن المفاهيم الغربية الحديثة، تعبر عن روح إنسانية تؤمن بأن الخير ينبع من الحق، وأن القانون يجب أن يكون وسيلة لتحقيق التوازن والانسجام. يرى شميل أن هذه الشرائع تعكس فهمًا إنسانيًا عميقًا للحياة والمجتمع، حيث تسعى القوانين إلى حماية الفرد وتنظيم المجتمع بما يحقق العدالة للجميع. ورغم أن هذه الشرائع قد تبدو بعيدة عن تصوراتنا الحديثة، إلا أنها تحمل دروسًا قيمة حول أهمية العدالة كركيزة أساسية للحكم والمجتمع.

في الأخير، يمكن القول إن كتاب “السياسة في الشرق القديم” يقدم قراءة فلسفية وتاريخية غنية للشرائع القديمة، تكشف عن عمق الفكر الإنساني وسعيه الدائم لتحقيق العدالة. العدالة التي لم تكن وسيلة لتنظيم الحياة فقط، بل كانت انعكاسًا لرؤية كونية تؤمن بأن العدل هو جوهر القانون، وأن الانسجام بين الإنسان والكون هو الهدف الأسمى. بهذا، يُعد الكتاب دعوة للتأمل في جذور العدالة الإنسانية، وكيف شكلت هذه القيمة مفهوم القانون والمجتمع عبر التاريخ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *