المهمشون.. الحقيقة المخبأة في ظلال التاريخ

“المهمشون هم الذاكرة الخفية للحضارة؛ هم الذين بنوا العالم، لكنهم عاشوا في ظله.”

تاريخ المهمشين هو النبض الخفي الذي يغذي شريان الإنسانية، ذلك التاريخ الذي لم يُكتب بأقلام السلاطين، ولم يُحفظ في سجلات الملوك، بل عاش في ظلال القصور، في الشوارع الخلفية للمدن، وفي الحقول التي تحولت إلى مسارح للنسيان.. إن الحديث عن المهمشين ليس محاولة لاستدعاء مظلومياتهم فقط، بل هو إعادة صياغة لفهم التاريخ نفسه، وتفكيك للمعايير التي جعلت من المنتصرين أبطالاً ومن الآخرين شظايا غير مرئية.

عندما نفكر في التاريخ كما نعرفه، نجد أنه غالبًا ما يُكتب من وجهة نظر السلطة، وجهة نظر الأقوياء الذين يملكون وسائل الكتابة والتوثيق…، يصر والتر بنيامين في أطروحاته عن التاريخ على أن كل عمل حضاري يحمل في داخله جرائم بربرية، إنه تصريح يشير إلى أن ما نراه من تقدم وإنجازات ليس إلا غطاءً على الظلم والاستغلال الذي وقع على أكتاف المهمشين، فالبنيان الذي نفخر به اليوم شُيِّد على العرق المسكوب، والدماء المسفوكة، والآلام المنسية…، من هنا يبرز سؤال فلسفي عميق: هل يمكن أن يُبنى المجد الإنساني دون سحق آخرين؟ وإن كان الجواب بالنفي، فما معنى العدالة في سياق التاريخ؟

إن المهمشون كما يشير ميشيل فوكو، لم يكونوا غائبين عن الأحداث، بل غُيِّبوا عمداً، لأن التاريخ ليس سردًا للأحداث فقط، بل هو عملية اختيار منظمة لما يتم حفظه ولما يتم نسيانه، ففي كل مرة يكتب المنتصرون قصصهم، يحذفون قصص أولئك الذين عاشوا في الظل، هذا الحذف ليس فعلًا سلبيًا فقط، بل هو فعل قوة، يعيد تشكيل الذاكرة الجماعية بما يخدم مصالح السلطة. إذن، المهمشون ليسوا فقط غائبين في السجلات، بل هم مُقصَون عن الوعي الجمعي، مما يجعلهم غرباء عن تاريخهم نفسه.

ورغم هذا القمع المنهجي، لا يمكننا أن نغفل حقيقة أن المهمشين كانوا دائماً حاضرين بطريقة ما، حتى وإن لم نرهم، الفيلسوف جان بول سارتر، بفلسفته الوجودية، يرى أن الحرية ليست هدية تُمنح، بل هي فعل يُمارس، فبالرغم من القهر، مارس المهمشون حريتهم في أشكال غير تقليدية، على سبيل المثال: العبيد في أمريكا لم يقتصروا على مقاومة الاستعباد بأدوات التمرد المباشر، بل استخدموا الموسيقى، والأغاني، والأساطير كوسيلة لإبقاء روحهم حية، حيث كانوا يُعيدون تشكيل الواقع بطرق لا يمكن للسيد أن يفهمها، مما جعل مقاومتهم أعمق وأكثر ديمومة.

يمكننا أن نرى أيضًا صورة أخرى للمهمشين في عمال المناجم الذين عملوا في ظروف مروعة، مثل أولئك في مناجم الفحم في إنجلترا خلال الثورة الصناعية، هؤلاء العمال لم تُذكر أسماؤهم في كتب التاريخ، رغم أنهم كانوا الأساس الذي بُنيت عليه حضارة صناعية كاملة. وكذلك نساء الحقول في المستعمرات الإفريقية، اللواتي عانين القهر المزدوج، من الاستعمار ومن الذكورية المجتمع المحلي، لكنهن قدمن نموذجًا للمقاومة الصامتة، حيث واصلن العمل والحياة رغم كل محاولات سحق إنسانيتهن.

هذا النمط من المقاومة يعيدنا إلى مفهوم نيتشه عن إرادة القوة، حيث يرى أن المهمشون رغم أنهم يبدون وكأنهم خارج لعبة السلطة، إلا أنهم يملكون إرادة خفية، إرادة تظهر في محاولاتهم اليومية للبقاء، لإيجاد معنى في عالم ينكر وجودهم، هذه الإرادة ليست فقط شكلاً من أشكال التحدي، بل هي أيضاً شهادة على قوة الروح الإنسانية.

لكن هل يكفي أن نعترف بوجودهم؟ ماذا يعني أن نعيد كتابة تاريخ المهمشين؟ إعادة الكتابة ليست إضافة بعض الأسماء والقصص إلى السجل الرسمي فقط، بل هي إعادة تعريف للتاريخ ككل، يرى المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد أن التاريخ ليس فقط ما نرويه، بل هو ما نختار عدم روايته. إذن، المهمشون هم الجانب المظلم للقمر الذي يضيء فقط عندما نقرر أن نرى ما وراء الضوء، إنهم يمثلون البعد الآخر للحقيقة، البعد الذي يكشف هشاشة السرديات الكبرى التي تعزز السلطة.

علاوة على ذلك، المهمشون هم أكثر من شخصيات صامتة في هامش الروايات الكبرى، إنهم الحكاية التي تشكل البنية التحتية لكل سردية، الكتلة التي تدعم الهرم دون أن تُرى، ففي كل بناء عظيم، وفي كل حضارة أو إمبراطورية، هناك أولئك الذين حملوا الأحجار ولم تُذكر أسماؤهم، الذين سهروا ليبقى الآخرون نياماً، إذا أردنا أن نفهم تاريخ الإنسان حقاً، علينا أن ننظر في عيون هؤلاء الذين لم يُمنحوا فرصة الحديث.

في الأخير، التأريخ للمهمشين ليس دعوة للشفقة أو التقدير المتأخر فقط، إنه تحدٍ فلسفي عميق، إنه يدعونا للتساؤل عن معنى الحقيقة، عن كيفية تشكيلنا للذاكرة، وعن مدى استعدادنا لمواجهة ظلال الماضي. المهمشون، في نهاية المطاف، هم صورة الإنسان في أبسط حالاته وأكثرها صدقاً: الكائن الذي يصارع النسيان ليحافظ على معنى وجوده.

قد لا تكون أصواتهم عالية، لكن وقعها على من ينصت هو الصدى الحقيقي لما يعنيه أن تكون إنسانًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *