إحياء التعاطف في عالم مضطرب

في عالم يتسم بالسرعة والتغيرات المستمرة، يبدو أن التعاطف، تلك القدرة الجوهرية على فهم مشاعر الآخرين ومشاركتها، يتعرض لتراجع ملحوظ، فمع تزايد الانقسامات الاجتماعية، والتوترات السياسية، وهيمنة التكنولوجيا التي تعزلنا عن التواصل الحقيقي، كلها عوامل تضعف “القيم الأخلاقية” التي تجعلنا بشرًا بحق، ومع ذلك يرى الباحث جميل زكي أستاذ علم النفس في جامعة “ستانفورد”: أن التعاطف ليس صفة موروثة تندثر بفعل الزمن، بل هو مهارة يمكن تطويرها وسلاح قوي في مواجهة تحديات عالمنا اليوم.

في كتابه “حرب من أجل التعاطف” (The War for Kindness)، يناقش جميل زكي كيف يمكن اعتبار التعاطف مهارة قابلة للتعلم والتمرين، وليس شعورًا ثابتًا، ويؤكد في ابحاثه أن المجتمعات التي تُعزز ثقافة التعاطف واللطف تكون أكثر قدرة على مواجهة الأزمات وحل النزاعات، على الرغم من ذلك فإن الإحصاءات والدراسات تشير إلى أن التعاطف البشري قد شهد تراجعًا ملحوظًا على مدار العقود الأخيرة، خاصة في المجتمعات التي تعاني من استقطاب سياسي أو تفاوتات اقتصادية كبيرة.

كما أن أحد الأسباب الرئيسية لهذا التراجع هو صعود التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، فعلى الرغم من أنها تهدف إلى تعزيز الاتصال بين الأفراد، إلا أنها في كثير من الأحيان تخلق التباعد العاطفي، ويذكر زكي كيف أن الانخراط المفرط في العالم الرقمي يؤدي إلى تجريدنا من رؤية “الآخر” ككيان إنساني، بدلاً من ذلك يصبح الآخر صورة على شاشة، مما يُسهل تجاهل معاناته أو حتى ممارسة العداء تجاهه، وهذا ما شهدناه في العدوان الصهيوني على غزة والضفة ولبنان وسوريا واليمن.

علاوة على ذلك، يرى جميل زكي أن التعاطف يمكن أن يكون أداة قوية للتحول الاجتماعي، على سبيل المثال: أظهرت الدراسات أن البيئات التي تُشجع على التعاون والتفاهم، سواء في المدارس أو أماكن العمل، تنتج أفرادًا أكثر استعدادًا للتعاون في المواقف الصعبة، كما أن الحكومات والمؤسسات التي تستثمر في برامج تعزز التواصل بين المجموعات المختلفة قادرة على تقليل معدلات العنف والتوتر الاجتماعي.

إحدى الطرق الفعّالة لمكافحة هذا التراجع تكمن في “التمرين على التعاطف”، يشير زكي إلى أن وضع أنفسنا مكان الآخرين، ولو للحظات بسيطة، يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا في فهمنا لمشاعرهم وتجاربهم، على سبيل المثال لا الحصر: عندما يقوم الطبيب بالتواصل مع مريضه بصدق وإنسانية، فإنه لا يساعده فقط على الشفاء جسديًا، بل يمنحه أيضًا شفاءً نفسيًا.

رسالة زكي الرئيسية في كتابه هي أن التعاطف ليس رفاهية أخلاقية، بل ضرورة إنسانية، فنحن بحاجة إلى استعادة اللطف كقيمة أساسية في حياتنا اليومية، هذا يعني أن نُظهر تفهمًا أكبر لمخاوف الآخرين، حتى عندما لا نتفق معهم، وأن نعزز الحوار البنّاء بدلاً من السخرية أو الإقصاء، كما أن الاستثمار في التعاطف لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يمتد إلى المؤسسات والمجتمعات ككل، ويمكن للحكومات تصميم سياسات تُعزز التفاهم بين الفئات المختلفة، ويمكن للشركات وضع ثقافة عمل تُقدر العلاقات الإنسانية.

رغم التحديات العديدة، يبقى زكي متفائلًا. يؤكد أن البشر يمتلكون قدرة فطرية على بناء جسور من التفاهم، حتى في أصعب الظروف، فالأمر يتطلب فقط إرادة واعية لإعادة توجيه تركيزنا نحو التعاطف واللطف. ختامًا، فإن التعاطف ليس شعورًا بسيطًا أو رفاهية يمكن الاستغناء عنها، إنه ما يجعلنا بشرًا.. وعندما ندرك أن اللطف ليس علامة ضعف، بل قوة قادرة على تغيير العالم، يمكننا أن نخوض “حربًا من أجل التعاطف” وننتصر فيها لصالح الإنسانية والقيم الاخلاقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *