العوام على هامش التاريخ.. الحكايات المغيبة والمعاناة المنسية

“إنَّ تجاهلَ المؤرخين لحياة العوام ومعاناتهم في التاريخ الإسلامي لا يُعبر عن غيابهم الحقيقي، بل هو انعكاسٌ لهيمنة الرواية الرسمية التي سعت إلى تلميع صورة السلطة وإخفاء التفاوت الطبقي والاحتجاجات الشعبية.”

التاريخ الإسلامي حافل بالقصص التي تبرز دور العوام والمهمشين في تشكيل مساراته، إذ أن هؤلاء رغم تهميشهم في السرد التاريخي الرسمي، كانوا المحرك الأساسي لكثير من الأحداث الكبرى والتحولات الاجتماعية. غالبًا ما انشغلت الروايات الرسمية بتأريخ حياة الحكام والطبقات العليا، مركزة على الغزوات الكبرى، والمؤامرات السياسية، والإنجازات السلطانية…، بينما ظل ذكر العوام هامشيًا، لا يظهر إلا عند اندلاع الثورات أو الحركات الاجتماعية التي هددت استقرار الأنظمة.

ومع ذلك، فإن هؤلاء المهمشين كانوا في قلب الحياة اليومية للدولة الإسلامية، يسهمون في الزراعة، والتجارة، والحرف اليدوية، ويعبرون عن آمالهم ومخاوفهم من خلال أشكال ثقافية متعددة مثل الشعر الشعبي، والأمثال، والحكايات. لقد كانوا صوتًا خفيًا لكنه مؤثر في بناء النسيج الاجتماعي والثقافي للأمة. إن تجاهل دورهم في الروايات التاريخية لا يعبر عن غيابهم الحقيقي، بل عن سيطرة الرواية الرسمية التي سعت إلى تلميع صورة السلطة وإخفاء مظاهر التفاوت الطبقي والاحتجاج الشعبي. هذه الفجوة بين ما حدث فعلًا وما دُوِّن في السجلات التاريخية تكشف عن ضرورة إعادة قراءة التاريخ بمنظور ينصف هؤلاء الذين شكلوا البنية الأساسية للمجتمع الإسلامي عبر العصور.

الدكتور محمود إسماعيل، في كتابه “المهمشون في التاريخ الإسلامي”، يسلط الضوء على هذه الفئة المنسية، موضحًا طبيعة الصعوبات التي واجهها المؤرخون في توثيق تاريخهم. ويصف كيف اقتصر ذكر العوام في المصادر على حركات المعارضة التي وُصفت بعبارات قاسية مثل “الرعاع والأراذل”، بينما تم تصنيف زعمائهم بـ”المفسدين والزنادقة”. لكن رغم ذلك، هناك إشارات إيجابية، كما في وصف “إخوان الصفا” لأصحاب الحرف بأنهم “فنيت أبدانهم في خدمة أهل الدنيا”.

إقرأ المزيد:  التعليم كركيزة للنهوض الحضاري في عصر التحولات الكبرى

من بين أبرز الحركات التي قادها العوام كانت ثورة “الخشبية” في العراق خلال العصر الأموي، التي تزعمها المختار الثقفي الذي استقطب الفلاحين وأصحاب المهن البسيطة تحت شعارات تدعو إلى “الدفاع عن الضعفاء” والعدالة الاجتماعية، ويشير الدكتور إسماعيل إلى أن المختار الثقفي “اتسم بالطموح السياسي المقرون بتبني مفهوم العدل الاجتماعي”، مما جعله قائدًا شعبيًا رغم أصوله الأرستقراطية. وصف المؤرخون أتباع هذه الثورة بـ”السفهاء والطغام”، لكنهم كانوا في الواقع يسعون إلى تحقيق المساواة، ووفقًا للبلاذري، فإن تسمية “الخشبية” جاءت لأنهم كانوا يتسلحون بأدوات بدائية مصنوعة من الخشب، مما يعكس بساطة أدواتهم وشدة فقرهم.

في العراق أيضًا، برزت حركة “العيارين والشطار”، التي تمثل صرخة الفقراء ضد استغلال الأغنياء والسلطة، حيث رفضت هذه الحركة الظلم الاجتماعي والاقتصادي، واتسمت بشعاراتها النبيلة مثل: “لا نسرق الجيران، ولا نكافئ الجائر”. ويبرز إسماعيل كيف أن العيارين لم يكونوا مجرد لصوص عاديين، بل “أصحاب قضية تقوم على الثورة على أصحاب السلطة والمال لصالح المستضعفين”، فقد كانت حركة العيارين قادرة على تنظيم نفسها بنظام عسكري واجتماعي، حيث امتزجت تقاليد “الفتوة” بروح المساواة، لكن السلطة لجأت إلى دس عملاء داخل الحركة لتدميرها من الداخل، مما أدى إلى تفككها.

بعيدًا عن الحركات الاحتجاجية، أبدع العوام في التعبير عن أنفسهم من خلال السير الشعبية مثل “سيرة بني هلال” و”الظاهر بيبرس”، حيث امتزج الواقع بالخيال بحثًا عن البطل المخلص. كما برزت المرأة كقائدة بطولية في سيرة “الأميرة ذات الهمة”، مما يعكس مكانة المرأة في الخيال الشعبي كمنقذة في أوقات الشدة. يختم الدكتور محمود إسماعيل تحليله بالإشارة إلى أن نضال العوام والمهمشين لم يكن فقط مجرد رد فعل ضد السلطة، بل كان تعبيرًا عن سعي دائم لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وقد أضاف هؤلاء المهمشون بعدًا إنسانيًا وثقافيًا عميقًا إلى التاريخ الإسلامي، إذ لم يقتصر دورهم على المواجهة، بل شمل الإبداع الثقافي والفني الذي جسد معاناتهم وأحلامهم.

إقرأ المزيد:  طه عبد الرحمن والشر المطلق: قراءة فلسفية في أزمة الإنسان المعاصر

في الأخير، الحديث عن المهمشين في التاريخ الإسلامي ليس فقط استعراضًا لحركات اجتماعية أو ثورية، بل هو أيضًا دعوة لإعادة قراءة هذا التاريخ من زاوية مغايرة، زاوية تبرز أصوات من لم يكن لهم حظ في تسجيل الرواية التاريخية الرسمية. كما قال الجاحظ: “إن عوام الناس، وإن لم يكتبوا التاريخ، فإنهم من يصنعونه بأيديهم ودمائهم”، هؤلاء المهمشون كانوا جزءًا حيويًا من النسيج الاجتماعي، وابتكارهم للأشكال الأدبية والفنية مثل القصص والمقامات والملاحم الشعبية يعكس عمق معاناتهم وأحلامهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *