“المهمشون ليسوا ظلًا؛ إنهم الضوء الذي لا تراه أعينٌ معتادة على بريق المصابيح.”
التاريخ في جوهره، أقرب إلى نهر جارف يحمل الحصى والطمي بقدر ما يحمل الجواهر، ومع ذلك حين نحاول فهم هذا النهر، لا ننظر سوى إلى ما يلمع على السطح، متجاهلين كل ما شكّل قاعه. المهمشون، أولئك الذين لا تحفل بهم الروايات الكبرى، هم قاع التاريخ؛ صلبه الذي لا يُرى، ولكنه يحمل ثقله كله. يقول جان بول سارتر: “الكتابة هي فعل مقاومة”، ولكن ماذا يحدث حين تُقصى أصوات من ينبغي أن يكتبوا؟ المهمشون ليسوا فقط أولئك الذين لم يُكتب عنهم، بل هم الذين لم يُمنحوا حتى فرصة الكتابة. في كل عصر، هناك من يحملون على ظهورهم عبء العالم، دون أن يُدركوا أنهم يفعلون ذلك، إنهم الجنود المجهولون الذين يبنون صروح الحضارة، بينما تُنسب الإنجازات إلى غيرهم.
كارل ماركس تحدث عن “القوى المنتجة”، تلك الطبقات التي تجعل التاريخ يتحرك، لكنه رغم رؤيته العميقة، لم يُنصف تمامًا الأفراد الذين لم تصل أصواتهم حتى إلى التوصيف كـ”طبقة”. المهمشون لا يشكّلون طبقة، لأن وجودهم ليس محددًا بمعايير الاقتصاد فحسب، بل بواقع الإقصاء الاجتماعي والثقافي، إنهم “الآخر” الذي لا نريد الاعتراف به، لأن الاعتراف يعني إعادة النظر في أسس الهيمنة ذاتها.
حين يقول فوكو إن “السلطة تعمل بصمت، في التفاصيل”، فإنه يفتح لنا نافذة لفهم التهميش كعملية مستمرة، ليست فقط نتاجًا للحظات تاريخية معينة، بل هي بنية راسخة في كل مجتمع. المهمشون ليسوا غائبين؛ هم الذين يُبعدون عمدًا عن مركز الرؤية، حتى يبقى النظام مستقرًا، والسلطة محتفظة بهيبتها. ومع ذلك هناك تناقض وجودي في تهميشهم! إنهم العمود الفقري الذي لا يمكن تجاهله، حتى وهم مُبعدون عن السردية. نيتشه يقول: “من يحفر عميقًا في الأشياء الصغيرة، يجد العمق ذاته الذي يجده في الأشياء الكبيرة.” المهمشون هم هذا العمق الخفي، الذين تُبنى فوقهم كل الأشياء الظاهرة.
تأمل الحاضر: العامل الذي يصنع هاتفك الذكي في مصنع بعيد، اللاجئ الذي يزرع حقولًا لا يملكها، المرأة التي تعمل في صمت لإبقاء أسرتها واقفة. هؤلاء هم تجليات التاريخ المستمر للمهمشين، إنهم يخلقون القيمة دون أن يُذكروا في قوائم الاعتراف.
في الأخير، ربما علينا أن نقرأ التاريخ من جديد، ليس كبطولات عظيمة وأسماء لامعة، بل كأثر لتلك الأقدام التي سارت طويلاً دون أن تترك نقشًا. كما قال والتر بنيامين: “حتى الموتى لن يكونوا في مأمن، إذا انتصر العدو..”، كتابة تاريخ المهمشين هي، في جوهرها، فعل إنقاذ لكل أولئك الذين عاشوا وماتوا دون أن يسمع العالم صدى وجودهم.
اترك تعليقاً