هوامش المدن.. فلسفة الظلال على أطراف الحضارة

“المدينة تستهلك نفسها، لكن الهوامش تولد العالم من جديد.”

تجلس المدن على رقعة الزمن كما يجلس الملك في لوحة الشطرنج؛ مركزية، مشرقة، مهيمنة، لكن ماذا عن الهوامش؟ تلك الزوايا التي تختبئ فيها الأرواح الصامتة والقصص التي لم تُروَ…، فالهوامش ليست فقط أماكن، بل هي فلسفة، حالة وجودية، تعبير عن الفراغات التي يخلقها السعي للهيمنة والكمال.

المدن الكبرى تعيش في وعي ساكنيها، أما الهوامش فتعيش في لا وعيهم، كما قال الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر: الهوامش هي المساحات التي تُقصى لتبقى المدن نظيفة، منمّقة، متأنقة أمام عدسة التاريخ. لكنها ليست فارغة؛ بل مكتظة بالمعاني التي لا تُقال. في هوامش المدن، تتسلل الحياة ببطء؛ هنا لا أحد يسأل عن الغايات الكبرى، بل يتحدث الناس عن الوجود بلغة أبسط: هل سأجد قوت يومي؟ هل سينام أطفالي دون خوف؟ إنها أسئلة تنبع من “الفلسفة الأولى”، ولكنها هنا بلا أبّهة.

في قلب المدينة، يصف الفيلسوف جورج زيمل الحياة بأنها نابضة بالتوتر والقلق، حيث يقتات الناس على الاستهلاك والسرعة، أما في الهوامش فالزمن يتباطأ، يتحول إلى ضربات بطيئة لقلب العالم. هل الهوامش هي المكان الوحيد الذي يهرب فيه الإنسان من عبء الحضارة؟ الهوامش ليست فقط ملاذًا، بل ساحة معركة.. معركة الوجود في وجه الإهمال، كما كتب فرانز كافكا: “الأمل موجود، لكنه ليس لنا”، ففي الهوامش يبدو هذا الأمل كطيف يلوح بعيدًا، لكنه يبقى مقاومة صامتة، رفضًا للاختفاء الكامل.

الهوامش لا تُحكم بالخطوط المستقيمة، بل بالأشكال الملتوية التي تعكس اضطراب العالم، في هذا السياق يقول جيمس سكوت: “الهوامش هي المكان الذي تذوب فيه أشكال السيطرة”. هنا، يتعايش الانهيار مع الخلق؛ كل شيء مؤقت، وكل شيء دائم في آنٍ واحد.. في سوق صغير على أطراف المدينة، تُباع الأحلام بأبخس الأسعار: حلم ببيت في المركز، أو فرصة عمل في المصانع الكبرى، هنا تستعرض الحياة وجهها العاري، بلا أقنعة.

إقرأ المزيد:  طه عبد الرحمن والشر المطلق: قراءة فلسفية في أزمة الإنسان المعاصر

ما الذي يجعل الهامش هامشًا؟ هل هو الجغرافيا، الاقتصاد، أم أنه الإقصاء الثقافي؟ الفيلسوف إدوارد سعيد يرى أن التهميش هو فعل سياسي، يقوم على تعريف الآخر بأنه “غير ذاتي”، وبالتالي أقل أهمية! الهوامش إذن، ليست نتيجة بل اختيار، لكن ماذا لو كانت الهوامش هي الجوهر الحقيقي للمدن؟ ماذا لو كانت المدن بأكملها هوامش لشيء أعظم لا نراه؟

الهوامش ليست هامشية إلا في عيون من يصرون على النظر إلى العالم من منظور المركز، إنها فضاء للحرية، ولو كانت حرية مشروطة. هكذا، يُعاد تعريف الجمال، المقاومة، وحتى الفشل. في الأخير، الهوامش ليست نهاية الطريق؛ إنها بدايته، فالمدينة تستهلك نفسها، لكن الهوامش تولد العالم من جديد، ربما هذا ما أراده ألبرت كامو حين كتب عن العبث.. ففي عالم يبحث عن المعنى في المركز، تظل الهوامش هي الحلم غير المكتمل، والظل الذي لا يختفي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *