اللغة والخوف: صناعة العدو

يكمن دور الخطابات السياسيّة في التحكم في المجتمعات والأفراد، ومواقفهم الاجتماعية والاقتصادية، غير أنّه أحيانا قد تخرج عن طبيعتها المعتادة لتستعمل اللغة وتوظّفها في صناعة الخوف والتحكم بالرأي العامّ؛ وتنطلق مقاربة صناعة العدو خاصة في الخطابات السياسية من أنّ كلّ خطاب سياسيّ يستدعي بالضرورة تأويلات متعدد حسب الغرض المقصود منه، وأنّ توظيف اللغة والقوّة يكون ذا أثر كبير في صناعة الخوف سواء وَعِيَته الجماعات الموجه إليها الخطاب أم لم تَعِه؛ إذ إن “اللغة ليست نظام رموز وإشارات فحسب، بل هي أيضا سلطة قادرة على التأثير في الواقع وإنتاج الأفعال وتوجيهها” (همام، 2016. ص: 95)؛ نقارب في هذا السياق بعض الخطابات السياسيّة التي يتجلى فيها البعد السلطويّ في اللغة المستعملة في هذه الخطابات السياسية، وأثر ذلك في صناعة العدو وتخويف الرأي العام منه؛ إذ إن أغلب هذه الخطابات ذات بعد سلطويّ يتجلى فيها صُنع الخوف بشكل كبير، وكلّ ذلك باعتماد بُعدي اللغة والقوّة، وسنأخذ في هذا الإطار عيّنة من الخطابات السياسيّة التي تحمل في طياتها بُعد صناعة الخوف، وسنركّز بالأساس على بعض المقولات المستعملة في خطابات ثلاثة من رموز السلطة في ثلاثة من دول العالم:

أولا: في السياق العالمي والذي يمثله دونالد ترامب Donald Trump رئيس الولايات المتحدّة الأمريكيّة منذ سنة 2016؛ إذ اتسمت خطابات ترامب بقوتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فهو من القلة الذين مرو على رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، واتسموا بخطابات ارتجالية لها أبعادها اللغوية التي تجمع في طياتها عنفا لغويا ظاهرا في غالب الأحيان وموجها نحو الأفراد والجماعات على حد سواء، فمن خلال المقولات التي تحملها خطابات ترامب؛ تكمن الصناعة الحقيقة للخوف، ويكْمن تصنيع الخوف في خطابات ترامب في صناعة العدوّ من خلال التهديد الإرهابي الذي يمثله بالمسلمين، ومنه فالمسلمون هم التهديد والممول الأكبر للإرهاب. إن تميّز ترامب يكمن في كونه يستعمل اللغة بحيث يخاطب العاطفة في خطاباته ضد الارهاب، ويخاطب العقل في خطاباته ضد الهجرة والتهديد المكسيكي الذي يقضي على فرص العمل بالنسبة للشعب الأمريكي ويعوق الاقتصاد، إن الخطابات التي تصنع الخوف عند ترامب هي نفسها التي يستعملها في التهديد؛ وخطابات ترامب مليئة بالتهديد سواء التهديد الذي يشمل الأفراد أو الجماعات؛ وقد اقتصرت أغلب خطابات ترامب التهديدية على إيران، وداعش باعتبارهما الخطر الذي يهدد الاستقرار العالمي؛ كلها خطابات إنما تكون بهدف التمسك بالسلطة؛ إذ إن السلطة حسب فكرة “السلطة من وراء الخطاب” هي من يجعل “النظام الاجتماعي للخطاب يصبح كيانا متماسكا بفضل التأثير الخفي للسلطة” (فِيركِلَف، 2016. ص:84)، فالخوف الذي صنعه ترامب في بداية الانتخابات بدأ في نهاية الولاية الأولى يختفي، بحيث يكون ترامب المنتصر فيها؛ وهذا ظاهر جليا في مقتل البغدادي رئيس تنظيم داعش الإرهابي، وأرقام عن انتعاش الاقتصاد الأمريكي، بسب نهج الحد من الهجرة؛ كلها أرقام تم الإعلان عليها قبل عام من انتهاء ولاية ترامب؛ رغم ذلك فقد ركز ترامب تهديده على الخارج غير مبال في خطاباته بالأمور الداخلية، وعدم صنع ترامب لعدو داخلي جعل مجموعة من القضايا تتأجج داخليا ما قد يؤثر على آمل ترامب في ولاية ثانية.

ثانيا: تعتبر الخطابات السلطويّة السياق العربيّ ذات دور كبير في صناعة الخوف وبالتالي صناعة العدو، فقد اتسمت الخطابات العربية بالخطاب الشعبوي، ولعل أبرز هذه الخطابات خطاب معمّر القذّافيّ رئيس ليبيا الأسبق، خاصّة في المقولات المشهورة عنه في بداية الثورة الليبيّة، من قبيل “سنعلن الزحف المقدس”، ومن قبيل “وسنزحف أنا والملايين لتطهير ليبيا شبر، شبر، بيت، بيت، دار، دار، زنقة، زنقة، فرد، فرد، حتى تتطهر البلاد من الدنس والإرجاس” ويقول مضيفا في نهاية خطابه الشهير  “دقة ساعة الزحف، دقة ساعة الانتصار، لا رجوع،  إلى الأمام، إلى الأمام، إلى الأمام، ثورة، ثورة”، اتسم هذا الخطاب الذي قدمه القذافي إبَّان الثورة الليبية بالعنف، وقد كان هذا الخطاب موجها لأجل التخويف، وثني الشعب عن التظاهر، فجل من الشعب الثائلر عدوا يهدد الامن في ليبيا، واستعملت مجموعة من العبارات التي تحمل دلالة العنف والتي هدفها زرع الخوف وخلق العدو، من قبيل “ساعة الزحف”، “الزحف المقدس”، “سنطهر ليبيا”، لكن رغم ذلك فإن الشحنة الكبيرة من التخويف والوعيد التي شحنت بها لغة القذافي في هذا الخطاب، كان لها وقع معاكس؛ إذ زادت خطابات القذافي من الثورة الليبية وهيّجت الشارع الذي رأى من خطابات القذافي تهديدا قويا مفعوما بالقوة يهدد بها حياة الشعب الليبي، ومنه فإن الخطاب الذي يظهر بقوة في طياته التخويف، في الغالب ما يؤول إلى نتائج معاكسة.

ثالثا: في السياق العربي كذلك، تعتبر خطابات عبد الفتاح السيسي رئيس مصر منذ سنة 2014، من الخطابات التي تعرف كيف تتعامل مع غضب الشعب وذلك باستعمال اللغة والقوة في صناعة الخوف وتوجيهه لصناعة أعداء وهميين، إذ ارتبط الخطاب السياسي عند السيسي بالتخويف ضد الإرهاب كونه الدعامة التي تقاتل الإرهاب وتعمل على حفظ أمن مصر ويقول “هناك من يريد إدخال مصر في صراعات داخلية”، وتميزت خطابات السيسي بشكل جديد من صناعة الخوف غير الذي عهدناه في خطابات كلّ من ترامب والقذّافيّ؛ إذ إنّ الخوف الذي تصنعه خطابات السيسي مرتبط أساسا بالعجز وفقر الدولة، وكونهما سببا في إعاقة التنمية والتخويف من تأزّم اقتصاد الدولة، وفي هذا السياق يقول “يا ريت حدا أقول ليكم إني حنا فقرا أوي، فقرا أوي، اسمع الكلام، اسمع الكلام، إحنا بنقولوكو المرض، إبْأَ حنا حَنُصْمُد إبَا حنَا حَنِبْنِي إبْأَ احنا هانقُول ليهوم رغم فقرنا، ها نِطْلع أُدَّام ونِبقَا كبار”، وهي ما معناه أن “الشعب المصري فقير جدا، ويعتبر هذا الأمر بمثابة المرض، لكن رغم ذلك سنبقى في الأمام وسنبقى كبارا”، إن الخطاب الذي يتميز به السيسي يجعله يصنع الخوف  والعدو، وذلك بصناعة الأرقام الاقتصادية المتدهورة وكون الدولة في عجز اقتصادي، بحيث تكون بذلك المظاهرات هي من تفاقم هذا الوضع وتمنع من الإصلاح والنمو، يمكن وصف هذا الأمر بأنه “محاولة حشر الشعب داخل الصندوق فلا يرون إلا ما يراه” (الجزيرة، 2016)، إن الخطاب المرتجل للسيسي رغم ذلك جعل من الشارع المصري يفهم أن هناك قناعا وراء خطابات السيسي، الشيء الذي جعل مصر والشارع المصري في سيرورة من صناعة الخوف، فأحيانا تزرع السلطة الخوف في الشعب بالتخويف والقمع، وأحيانا أخرى ينتفض الشعب ليصنع الخوف من خلال تهديد النظام ورأس السلطة والمطالبة بسقوطه.

تبقى اللغة هي المكوّن الأساسي في عملية التخويف وصناعة العدو، وتعتبر الخطابات السياسية المنفذ الأبرز للغة للعب دورها في التحكم في الشعوب، من خلال خطابات شعبوية تحاول صناعة أعداء وهميين تلتهي بها الطبقات الاجتماعية دون النظر في القضايا السياسية ما يجنب السلطة إمكانية المسائة والمطالبة بالحقوق، رغم ذلك تبقى اللغة هي الفاضحة لهذه المحاولات من التحكم بالشعوب والرأي العام، فاستعمال اللغة في غير مكانها ووقتها يمكن أن يؤدي إلى نتائج معاكسة بالنسبة لتطلعات السلطة، ولعل من بين الأمثل على هذه النتائج المعاكسة تأثير تغريدات ترامب على الشارع الأمريكي، ودورها في تأجيج المظاهرات الأمريكية.