إيثيقا السياسة لدى نيكولاس مكيافلي

ارتبط اسم نيكولاس مكيافلي في تمثل قارئه بأنه شيطان السياسة، أو بعبارة أخرى أب الساسة الذي علمهم سحرها، وغالبا ما نسمع أن أغلب المستبدين الذين حكموا دولهم بالقوة، كانوا مطَّلعين على مكيافلي خصوصا كتابه المشهور ” الأمير”، لكن قبل تأكيد أو نفي حكم القيمة هذا، يلزمنا من الناحية المعرفية أن نكون على بينة من أمرنا فيما يتعلق بهذا الحكم، وأن نفهم الأسس المعرفية التي انطلق منها مكيافلي لتأسيسه نظرية  في السياسة، ثم نستنتج فيما بعد، هل مكيافلي كان مكيافليا بالمعنى القدحي، أم أنه سقط ضحية إسقاطات إيديولوجية جعلت منه شيطان السياسة؟.

في هذا المقال، سيتم اعتماد كتاب الأمير في فهم نظرية مكيافلي السياسية، باعتباره الكتاب الذي أسس لنظرية سياسة كانت منطلق الحداثة السياسية الغربية، ومغايرة على ما عاهدته الفلسفة السياسية سواء في الفترة اليونانية أو في الفترة الوسطية، بشقيها الإسلامي والمسيحي. فبعدما كانت الأخلاق في التصور القديم والوسيط هي المؤطرة لنظريات الفعل السياسي بغية بلوغ الكمال الأخلاقي المتمثل في السعادة أي سعادة الراعي والرعية، سيجعل مكيافلي للسياسة أخلاق من صميمها، بحيث سيصير المعيار في الفعل السياسي معيارا محايثا له، وليس من خارجه، بمعنى أن للسياسة أخلاقها يفرضها حقل السياسة من الداخل، أي أن الأخلاق هي أخلاق سياسية يؤكدها العمل السياسي بالضرورة، وذلك لتناقض وتقاطع المصالح المختلفة بين القوى المتفاعلة في الميدان، لهذا يجب على الحاكم باعتباره مركزا للسلطة، استعمال كل الوسائل والآليات التي تجعله محافظا عليها، بناء على كيفية تحكمه في قدرية موازين القوى، وأن يجعلها لصالحه، وهذه هي النقطة المهمة التي يجب أن نفهمها جيدا، وهي إيضاح مكيافلي للفعل السياسي الذي جعله مرتبطا بالحقل السياسي، وأن معاييره يلزم أن تكون من صميمه، لا مفارقة له.

وتتمة لما سبق، سنتطرق إلى المنطلق الإبستمولوجي للطرح المكيافلي في نظريته للفعل السياسي، المبنية على الواقعية السياسية والقائمة على إيثيقا الضرورة السياسية. فمكيافلي يعتبر أن مهمة الأمير هي مهمة مزدوجة، إذ يجب  عليه أن يعرف جيدا طبيعة الشعب وأيضا طبيعة الأمراء، بمعنى أن يكون الأمير جزء لا ينفصل عن القاعدة الشعبية لكي يفهم الشعب، وفي الآن ذاته وبوصفه أميرا أن يكون متميزا عن الشعب لكي يقدم نفسه أميرا، أي أن يتحكم في العلاقة التي تربط بين الأمير والشعب، تلك العلاقة التي تكون ما بين الأعلى والأسفل وتفترض فهم إرادات القوى (بالمعنى النيتشوي) المتنافسة في المشهد السياسي، ويشبهها مكيافللي بالرسام. فحينما يريد هذا الأخير ” الرسام- الأمير” النظر في الجبال والأماكن الشامخة يتموقع في الأسفل عند السفوح ، وحينما يتموقع في الأعلى فلكي ينظر للأماكن السفلى، وتلك هي المهمة التي يجب أن يقوم بها الأمير بمعرفة جيدة تعبر عن حسن طالعه بالأماكن السفلى[1] والأماكن العليا، بغية التحكم في كل التغيرات التي يمكن أن تقع في السلطة وتهدد كيان الدولة المتمركز في الأمير.

ولكي يتمكن الأمير أيضا من تحصين دولته، يجب عليه أن يتحلى بأخلاق تفرضها الضرورة السياسية، أي أن تكون لديه إيثيقا (أخلاق محايثة للفعل) يعبر عنها الموقع الذي يحتله في السلطة، ومنه فالأفعال التي ستنتج عن هذا الموقع هي التي ستحدد الأخلاق، وليس معيارا خارج نسق السياسة، وبالتالي فالقوانين التي ستوجد ستكون من صميم الضرورة السياسية وليس من أشياء متعالية بالضرورة، لأن الهاجس الأساسي هو نيل أو الحفاظ على السلطة، ولكي ينال أو يحافظ الحاكم على هذه الأخيرة يجب عليه أن يتحلى بما تفرضه الضرورة السياسية.

وفي نفس الإطار، سننتقل إلى إشكالية أخرى، متعلقة بإشكالية الوصل والفصل بين السياسة والميتافزيقا. فيمكن أن نعتبر مكيافلي هو أول من قام بتمييز إجرائي بين السياسة والميتافزيقا “المتجلية في الدين والأخلاق أساسا”، حيث أن هذا التمييز جعل من السياسة تتحرر من ثقل الميتافزيقا ومن كل الاعتبارات الخارجية المفارقة، التي يمكن أن تعوق الفعل السياسي، ولهذا سيبني مكيافلي تصورا جديدا لتحديد السياسة بعلاقتها مع الميتافزيقا، وعلى الخصوص الدين أو الأخلاقية الدينية التي يجب أن يتميز بها الأمير. فمكيافلي يرى أنه يجب أن تكون أخلاق الأمير سياسية، وليست أخلاقا يحكمها المنطلق الديني بشكل صرف، ولهذا سينزع مكيافلي عن السياسة الغطاء الميتافزيقي، لكن هذا لا يعني التخلي المطلق عن الدين، لأن هذا الأخير بالنسبة  له، له دور “سياسي” مهم لكي يكون للأمير سلطة، ولذلك فمن المفيد للأمير أن يبدو متدينا وأن يكون كذلك فعلا، خصوصا وأن صفة التدين أكثر أهمية للناس العامة لأنهم يحكمون بما تراه عيونهم[2].

يمكن إذن أن نعتبر علاقة الوصل والفصل بين الدين والسياسة هي ليست علاقة انفصال بشكل حدي، تضع الدين في مصب والسياسة في مصب آخر، وهي أيضا ليست علاقة اتصال بين الطرفين، وإنما هناك علاقة إجرائية بينهما، بحيث يستعمل الفاعل السياسي الدين لأغراض سياسية تمكنه من الحفاظ على السلطة، أي أن يكون الدين كسيروة إجرائية تجعل السياسي يعرف مدى إفادة الدين لصالحه، ومدى مضرته له، وبهذا المعنى يمكن أيضا أن نعتبر الدين هنا قانونا إجرائيا تستعمله الحكومات لقضاء مصالح سياسية فقط.

جملة القول، تتحدد أنه هناك سوء فهم لنظرية مكيافلي السياسية، لأن المنطلقات مختلفة تماما، فمكيافلي ينطلق من الناحية المعرفية، من كون أن ميدان السياسة هو ميدان إرادات مختلفة القوى، كل واحدة تتنافس لكي تنال السلطة، بالرغم من الشعارات التي تختفي من ورائها، مثل “الإسلام هو الحل، الاشتراكية، الديمقراطية، الوطنية، الليبرالية…”، لهذا يجدر على الفاعل السياسي، أن ينطلق مما تفرضه الضرورة السياسية، وليس مما هو مفارق لها، لهذا فإن ميدان السياسة ينتج أخلاقا محايثة للفعل السياسي، أو ما يمكن تسميته، بإيثيقا السياسة، خصوصا وأن الإيثيقا تتعلق بنمط وجود الإنسان كفرد، داخل علاقات اجتماعية وسياسية، يفهم مدى قدرته داخلها، ومنه ينطلق مما كائن، وليس مما ينبغي أن يكون، كما تزعم الأخلاق الميتافزيقية، وبالتالي تنمطه وتجعله يسوء فهم قدرته داخل العلاقات الاجتماعية والسياسية، فيسوء فعله السياسي في ميدان السياسة.


[1] Nicolas Machiavel, Le Prince, Hatier Poche, lettre-dédicace à Laurent Magnifique, 2007 P, 8.

[2] Nicolas Machiavel, op. cit., 2007, .p 86.