ثقافة الفوضى !

لقد أصبحنا اليوم نرتاح لكل ما هو فوضوي، أما النظام والاستقرار فأصبحا حمقا خارج المألوف، إننا نرتاح في الفوضى. جرب نفسك يوما بأن تحترم علامات المرور والطريق خال من السيارات؛ فأن تنتظر حتى يشتعل الضوء الأحمر لكي تمر كأنك ترتكب حماقة سيشيرون إليك بالأصابع -ربما فقد صوابه-.

تصور سوقا دون زحام دون عربات وسطه إنه ليس سوقا، السوق هو الفوضى لا راحة بدونها. إننا فوضويون حتى في وعظنا؛ تجد واعظا يرتدي في الدرس ثوب المتواضع الدمث الخلق يحث مخاطبيه على الخير والرفق بالآخر، لكنه خارج ثوبه تجده غارقا حتى أنفه في بحار الكبر والأنانية وأن ما يقوله هو الصحيح وما خلا ذلك فهو الكذب والبهتان كأن الدين خلق له ولم يخلق لغيره؛ إنه يحب الفوضى بمعرفته الأحكام وجهل الآخر لها وبقوله ما لا يفعل.

ثقافة الفوضى ملازمة لنا حتى في تدبير زمننا؛ مثال النسق الزمني في اللغة العربية غامض ومبهم، فأزمنة الأفعال نجدها غير واضحة على المستوى المعنوي. وهذا يعني أن العرب لا يولون الزمن أهمية. ففي الفعل الماضي نقول مثلا (جاء محمد) لا نعلم وقت مجيئه بالضبط فالجملة من الناحية التركيبية وأيضا الدلالية سليمة، إلا أن معرفة ساعة المجيء وتاريخه تبقى مبهمة وغامضة.

لقد أصبحنا اليوم نرتاح لكل ما هو فوضوي، أما النظام والاستقرار فأصبحا حمقا خارج المألوف، إننا نرتاح في الفوضى. جرب نفسك يوما بأن تحترم علامات المرور والطريق خال من السيارات؛ فأن تنتظر حتى يشتعل الضوء الأحمر لكي تمر كأنك ترتكب حماقة سيشيرون إليك بالأصابع -ربما فقد صوابه-.

عبد الحق بوطيب باحث في اللسانيات التطبيقية

مثال مسألة التأريخ في الثقافة العربية نجدها أيضا غير مضبوطة، وذلك عندما يتم التأريخ لحدث معين بحدث آخر وهذا يوحي على أن الزمن في الثقافة العربية غير محدد بشكل دقيق. فمثلا لما نريد التأريخ لحدث ظهور الطباعة في العالم العربي غالبا ما نربطها بحدث حملة نابليون بونبارت على مصر، وهذا ما يزال مستمرا إلى اليوم فمثلا عندما نريد التأريخ لشعر التفعيلة نؤرخ له بحدث النكبة وسقوط فلسطين وهكذا، فنحن لا نعط تاريخا محددا للأحداث التي تمر عبر التاريخ على الرغم من أهمية التاريخ في بناء الأمم والحضارات. إننا ببساطة نحب الفوضى.

إننا فوضويون حتى في كتابتنا، إننا نعيش اليوم أزمة كتابة، فما أكثر الأخطاء الفادحة التي نقرأها يوميا فيما ينشر من كتابات ومقالات، وما أندر الكتابات الوازنة الرصينة التي تستحق القراءة؛ إذ الكاتب  لا يكفي فيه أن يمتلك الأفكار، بل يجب عليه أن يهذبها ويشذبها قبل أن يصل مرحلة التدوين. والمدرسة باعتبارها عالماً مصغراً لهذا المجتمع لا بد أن تكون انعكاسا لهذه الأزمة، فقد تجد من المتعلمين المتفوقين من لا يستطيع كتابة فقرة مكونة من أربعة أو خمسة أسطر سليمة لغويا ودلاليا، بل لا يستطيع الإتيان بعبارات من أسلوبه الخاص. ففي المدرسة أيضا نحب الفوضى. مجالات الحياة تحتاج إلى حسن التدبير والنظام ونحن لا نحب ذلك؛ لذلك لا ننجح في حياتنا نفسيا، ثقافيا، مجتمعيا…