رحل فاروق ومات عبدالناصر وبقيت أم كلثوم.. هل يخلد الفن وتفنى السياسة؟

بين شهري فيفري وماي من كل عام نعيش عبق ميلاد أم كلثوم وشجى رحيلها. في جنازة سيّدة الطرب العربي خرجت مصر تشيّع كوكبها بقلب ملهوف، وعيون جارية، وندبتها الأمة العربية ندبا حارا. رحلت أم كلثوم، لكن صوتها لم يرحل، وظل صداه يتموّج في وجدان الإنسان العربي، فيثير فيه أشجانا وذكريات لا تنتهي. وقد عشنا، بفضل المسلسل الذي أخرجته إنعام محمد علي، مع صوت أم كلثوم القويّ برنة ترنمه وعنفوان نبراته. وبعد النجاح الجماهيري الباهر، الذي عرفه المسلسل، لم تعد أم كلثوم رفيقة الساهرين المتوحدين في ليالي الأرق والسهاد، أو الخائبين في شقاء الحب أو أصحاب الذوق الرفيع، بل أصبحت مشاعة بين كل الناس.

ولعل سرّ نجاح مسلسل أم كلثوم يكمن في أنه تناول حياة سيّدة الطرب العربي بالعمق وليس بالعرض، وهو ما عجز عن تحقيقه المخرج محمد فاضل في فيلمه “كوكب الشرق”. ولقد وفّق السيناريست والمخرجة إنعام محمد علي، إلى حد بعيد، في تحويل أم كلثوم من صوت وصورة إلى شخصية متكاملة، بكل ما تنطوي عليه من قوة وانسجام، تنكشف تدريجيا من حلقة إلى أخرى عبر حبكة درامية محكمة ومترابطة مؤدية في نهاية المطاف إلى خاتمة المسار الاستثنائي لأم كلثوم، وهو ما جعل المتفرج يندمج ويتفاعل مع شخصيات المسلسل، اندماجا يكاد يصل حد التماهي، كما لم يغفل المسلسل الجانب المسكوت عنه في حياة أم كلثوم، وهو احتكاكها المباشر بالبيئة السياسية والثقافية والاجتماعية لبلدها وعصرها. فأم كلثوم لم تكن تغني فقط، وإنما كانت غواية وفتنة للسياسيين، الذين كانوا يسبحون في فلكها، ويسعون لكسب ودّها، واستغلالها لمآربهم الآنية الضيّقة.

لقد عاشت أم كلثوم في الفن وللفن، وعاشت أيضا في كواليس السياسة. في الفن ظلّت، كما هي، وفيّة لارتقائها الجنوني الساطع نحو صرح المجد. وفي السياسة سبحت بين تيارين. فعاصرت ملكية فاروق وجمهورية عبد الناصر. ولأن السياسي لا يقبل أن يزاحم في الشهرة أو تخطف منه الشعبية، فكلاهما، الملك فاروق والرئيس عبد الناصر، حاول التقرّب منها واستخدامها، أغدق عليها فاروق الهدايا ومنحها أرفع الأوسمة والألقاب، إلى حد أثار غيرة العوانس من أميرات السراي، اللائي لم يستسغن أن تدنّس هذه الفلاحة القادمة من دلتا النيل بذخ القصر ومفاتنه، لكن أم كلثوم عرفت بدهائها السياسي الانتهازي كيف تتفادى الصدام. في القصر، أيضا، وقعت أو تظاهرت بالوقوع في حب خال الملك شريف باشا صبري، وقد تعرفت، أيضا، على طلعت حرب. وفي كل مرة كانت تتظاهر بالحرص على سمعة السراي، كل ذلك في سبيل ارتقائها الشبيه بالقدر نحو المجد.

لقد عاشت أم كلثوم في الفن وللفن، وعاشت أيضا في كواليس السياسة. في الفن ظلّت، كما هي، وفيّة لارتقائها الجنوني الساطع نحو صرح المجد. وفي السياسة سبحت بين تيارين. فعاصرت ملكية فاروق وجمهورية عبد الناصر.

هاجر بتول الرقيق مدونة وكاتبة

في سنة 1952 ذهب الملك فاروق وجاء عبد الناصر. نظام مختلف وحاكم آخر، لكن أم كلثوم كانت تعرف كيف تسمو فوق الأنظمة ودسائسها. كان عبد الناصر يهوى أغانيها، فقرّبها منه، وفي عهده بدأت أم كلثوم تغني الأغاني الوطنية الملتزمة، تمجيدا لثورة الضباط الأحرار، وأشيع عنها أنها أغرقت جماهير مصر في سبات عميق، واتهمها البعض صراحة بأنها كانت أحد أسباب نكبة 67 . بعد النكبة قرّر عبد الناصر الانسحاب من الحكم، ثم تراجع، وقرّرت هي اعتزال الفن، لهول الصدمة التي لحقت ببلدها وبها شخصيا، لكن عبد الناصر أقنعها بالعدول عن قرارها، فعادت أم كلثوم أولا لفنها وثانيا لمصرها، وراحت تطوف ربوع مصر، ملهبة المشاعر الوطنية مستنهضة الهمم. وقامت بجولات في البلدان العربية والعواصم العالمية، تجمع التبرعات والأموال للمجهود الحربي وإعادة الإعمار، واتخذت هذه الجولات في بعض الأحيان طابع الزيارة الرسمية.

رحل الملك فاروق، ومات الرئيس جمال عبد الناصر، لكن صوت أم كلثوم الفخم ظل يطرب الناس إلى اليوم. واعتقد جازمة أن أجيال الشباب الحالية لا تعرف الملك فاروق وبطانته ودسائس قصره، ولم يبق عن عبد الناصر وضباطه الأحرار سوى ذكرى بعيدة باهتة. فمن كان يحكم زمن أم كلثوم؟

حريّ بنا أن نطرح هذا السؤال، مثلما طرح الأوربيون سؤالا مماثلا: من كان يحكم زمن شكسبير؟ لا أحد في أوروبا، ما عدا الاختصاصيين، يعرف ملك بريطانيا، الذي عاصره شكسبير، أو بالأحرى الذي عاصر شكسبير. لكن الجميع قرأ شكسبير، أو على الأقل يسمع عنه وعن مؤلفاته.

والعبرة من طرح السؤال هي أن الفن أزلي، والسياسة متهافتة. فقد ذهب السياسيون أدراج النسيان، لكن أم كلثوم بقيت وستبقى هرما من أهرامات مصر الشامخة، متربّعة على عرش الفن: في الشاعر الرومانسي العاشق الولهان أحمد رامي، ونغمات عود محمد القصبجي اليائس في حبه، وطموح رياض السنباطي العارم، وخجل محمد عبد الوهاب الكتوم، دون أن ننسى، طبعا، بيرم التونسي وزكريا أحمد ومأمون الشناوي وبليغ حمدي والأمير عبد الله الفيصل، وغيرهم من الملحّنين وكتّاب الكلمات. فشكرا لأم كلثوم، التي استطاعت عبر مشوار خمسين سنة من الغناء وثلاثمائة أغنية أن تعبّر عن وحدة مشاعر العرب في وقت كان فيه السياسيون يعملون على تفتيتها. لقد كانت أم كلثوم، كما قال عنها فيلم المخرجة الأمريكية ميشال غولدمان، صوتا “يشبه مصر” ويبدو أنه من الأصح القول إنها كانت صوتا يشبه كل العرب.